“قبضايات” تويتر
بقلم: حياة الحريري
النشرة الدولية –
القبضاي، مصطلح شائع في قاموس اللغة اللبنانية المحكية، وعادة ما كان ينسب في ما مضى للتعبير عن شخص قويّ وشجاع. يمكن تقسيم ظاهرة القبضايات إلى ٤ مراحل زمنية:
المرحلة الأولى، وهي مرحلة بروز هذه الظاهرة في العام ١٦٠٠ في عهد الأمير فخر الدين وصولا إلى الاستقلال في العام ١٩٤٣.
المرحلة الثانية، وهي مرحلة ما بعد الاستقلال وخمسينيات وستينيات القرن الماضي.
المرحلة الثالثة، وهي مرحلة الحرب الأهلية وصولا إلى ثمانينيات القرن الماضي.
أما المرحلة الرابعة، وهي تلك التي نعيش فصولها، وهي مرحلة العصر الرقمي وظاهرة القبضايات الافتراضيين على “تويتر”.
خلال كلّ تلك المراحل، تدرّجت توصيفات ومهام القبضايات تبعا لتبدّل العوامل السياسية والاقتصادية وما أنتجتها من أنماط في السلوك الاجتماعي. فمع انتشار هذا المصطلح منذ العام ١٦٠٠ في عهد الأمير فخرالدين[1] لا سيّما في المدن، كان القبضاي آنذاك يدلّ على الشخص القوي، الكريم، والشهم الذي يدافع عن الفقراء ويقف في وجه الظلم. وفي تلك الحقبة، عرف القبضايات النجومية من خلال القصص والحكايات البطولية التي غالبا ما كان يرسمها الناس لهم في جلسات المقاهي. وبفعل التبدّلات السياسية ووقوع البلاد في عهود الانتداب بلاعبيه المختلفين والاضطرابات السياسية، جعلت هذه الشهامة والجرأة والمروءة عند القبضاي في نظر الناس منه مرجعا لهم في مشاكلهم ومطالبهم. من هنا، بات لكلّ حيّ في المدينة القبضاي الخاص به وهو أشبه بالزعيم الفعليّ، إذ كان الناس يلجأون إليه طلبا للمساعدة. هذه “الزعامة” التي بدأت تتكوّن تبعا لأخلاق القبضاي عند ناسه وقدرته على مناصرتهم وحلّ مشاكلهم، أسّست لوظيفة جديدة تتخطى الحدود الاجتماعية الضيقة، بمعنى مساعدة أبناء الحيّ الواحد، فدخل القبضاي نادي السياسة اللبنانية كأمر واقع إذ لعب دور صلة الوصل بين السلطة وبين الناس.
إذا بات للقبضاي شرعية سياسية بفعل الأمر الواقع، فهو البطل عند أبناء منطقته أو في حيّه الذي يدافع عنه أمام أي دخيل. هذا الدور السياسيّ اعترف به الزعماء السياسيون التقليديون كرها طبعا، إذ شكّل القبضاي في مرحلة معيّنة تهديدا جديّا لسلطة الزعماء التقليديين، ذلك أنه كان يتمتّع بسلطة نتيجة شعبيته الكبيرة حتى بات باستطاعته في مرحلة معيّنة أن يحاسب زعيم منطقته أو أن يفرض عليه سياسيات معيّنة يعتبرها لمصلحة الناس. فائض القوة هذا الذي شعر به القبضايات بشكل عام في مرحلة معيّنة من التاريخ اللبناني الحديث لا سيّما في ستينيات القرن الماضي أدى إلى سوء استخدام لهذه السلطة، لينغمس معظمهم في أعمال شغب وأخرى خارجة عن القانون مثل تهريب السلاح ويتّبعون سياسة الابتزاز لتحقيق مصالحهم حتى مع السياسيين. التقط بعض الزعماء هذا الواقع الذي طرأ في شخصية القبضاي، واستطاعوا التأسيس لعلاقة الزبائنية بحيث يغطّي ويحمي الزعيم السياسي القبضاي، وبالمقابل يدين له الأخير بالولاء السياسيّ الذي كان يترجم من خلال العمل لصالح الزعيم في الانتخابات عبر إقناع الناس ومجابهة الخصوم حتى وإن أدى ذلك إلى صدامات ومواجهات، بالإضافة طبعا إلى مهمة تنظيم التظاهرات والتحركات الداعمة للزعيم. لا بدّ من الإشارة في هذا الإطار إلى أن الزبائنية في لبنان لم تكن حالة جديدة في العلاقة بين السياسيّ أو الزعيم أو بين الحاكم وبين الناس، بل هي تأسست منذ نشوء الكيان اللبناني بفعل علاقة المصالح والمنفعة المالية والامتيازات التي نشأت بين الحكّام وبين أصحاب النفوذ من خلال استغلال المجتمع لا سيّما في أزمنة الحروب والمجاعات. بالعودة إلى موضوع هذا المقال، أدى إذا سلوك بعض القبضايات إلى تشويه الصورة المرسومة في الأذهان، إذ تحوّلت الصفة المتعارف عليها للقبضاي لا سيّما في الستينيات وفي السبعينيات والتي كانت تدلّ على الأخلاق والشهامة والشجاعة، إلى توصيف سلبيّ لأشخاص أساؤوا استخدام سلطتهم الشعبية في أعمال تتناقض مع أصل التسمية.
إذا، انقسم القبضايات بين معسكرين متناقضين في الأحلاف والانتماءات السياسية وامتدّ الانقسام الواحد في محطات كثيرة بفعل المنافسة السياسية ضمن الحلف الواحد، فبات القبضايات وقود الزعماء في صراعهم على السلطة باسم الشعارات والعناوين الوطنية. تشير بعض الوثائق التاريخية إلى أن القبضايات مع بدايات هذه الظاهرة كانوا على علاقة طيبة بين بعضهم البعض وكان يتبّعون نوعا من العقد الاجتماعي والأخلاقي غير المكتوب في ما بينهم، بحيث يحترمون خصوصية ودائرة كلّ واحد منهم، ويتعاونون في ما بينهم لخدمة مصالح الناس ومساعدتهم. ولكن، بات القبضايات في تلك المرحلة أزلام الزعماء في الشوارع، يطلبون من الناس انتخاب زعيمهم، يتصارعون في ما بينهم حدّ المواجهة في أعمال شغب واعتداءات وتكسير، وفي كثير من الأحيان يمارسون أعمال الترهيب ضدّ جمهور خصومهم في السياسية. لا يهدف هذا المقال إلى الخوض في تفاصيل هذه الظاهرة من حيث الأسماء والمحطات التاريخية وتداخل العوامل الطائفية والاجتماعية والاقتصادية في كيفية تطوّرها، وذلك لعدم اتساع المساحة كما الموضوع بحيث ربما يتمّ تناول هذا الموضوع لاحقا، بل يهدف إلى الربط بين سلوك اجتماعيّ وأخلاقيّ تكرّس في مرحلة سياسيّة مفصليّة في تاريخ لبنان الحديث، وهي تتكرّر اليوم بعد سقوط زمن السلام والإعمار الوهميّين ولكن بأشكال مختلفة.
فمن يتابع وسائل التواصل الاجتماعيّ اليوم يشعر وكأنه في معارك شوارع مستمرة بين مناصري الزعماء وما يعتبرونه القامات لا الأحزاب، باسم حريّة الرأي والتعبير. فقد أثبتت الأزمة التي نفضت عنها كلّ أقنعة “العبور إلى الدولة” والحياة الحزبية السياسية أنه لا يوجد لدينا أحزاب بالمعنى الحقيقيّ، بل مجموعات طائفية ومذهبية وإن مقّنعة ببعض الامتداد الجماهيري. وإن حاول عدد من هذه المجموعات أو التيارات ممارسة العمل السياسيّ الحزبيّ المتعارف عليه في كتب السياسة، فهو يسقط عند أول استحقاق وخلاف أو اختلاف. بدورهم، يعكس المناصرون المغرّدون والناشطون الحزبيون على “تويتر” هذا السقوط. ففي السنوات القليلة الماضية، لم تعد منصات “تويتر” وسيلة لتبادل المعلومات وللتعبير عن الرأي، بل تحوّلت إلى ساحات من الصراعات من الأحزاب المتخاصمة والمتحالفة والمتصادقة، حتى بات المتابع أحيانا يضيع بين الحليف والخصم في المواجهات الافتراضية بين الناشطين والتي امتدت في أحيان كثيرة إلى مواجهة شوارع فعليّة ولو محدودة لا بسبب الوعي بين الشباب أو الأحزاب وهو غائب، بل لأن توازن القوى الخارجيّة لا يناسبه اندلاع الحروب في لبنان، فلا بأس إذا بالمعارك الافتراضية بين الناس. وكما قبضايات القرن الماضي، الشعبية الجماهيرية التي يمكن للفرد أن يكتسبها على وسائل التواصل الاجتماعي والحيثية التي بناها البعض والتي تبنّاها وغذّاها بعض الإعلام في محطات عدة تبعا للمصلحة وللظرف، جعلت من بعض المغرّدين يشعرون بفائض قوة افتراضية. هذه القوة إن صحت تسميتها، جعلت عدد لا يستهان به من المغردين يتيحون لأنفسهم لعب دور المطاوع الرقميّ أو القبضاي بمعناه السلبيّ الذي يتنمّر على جمهور يؤيّد خصم زعيمه، وأن يصنّفوا الناس تبعا لهواهم ومزاجهم بين حرّ وتابع، وخائن وعميل ومرتهن ووطنيّ، وبين مقاوم وجمهور سفارات، وبين محبّ للحياة وللحرية وبين محبّ للموت، وبين عربيّ وفارسيّ، أو بين عربيّ وأميركيّ وبين مفصوم إذا انتقد أحد ما سياسة حزب أو زعيم يحبه، وبين ثابت إذا هتف للزعيم في كلّ الظروف. هؤلاء باتوا يفرضون معادلاتهم الوهمية، فمثلا، يحددون متى تكون الظروف وجودية لمنع النقد ولو البنّاء بحجة المؤامرة ضد الأحلاف الوطنية، فيطلقون أحكامهم ويوعدون ويتوعّدون. معظم هؤلاء شباب جامعيّ، غالبيتهم استطاعوا بناء حيثية جماهيرية تحمّس وتحرّك وتستنهض الهمم للدفاع عن الزعيم باسم الطائفة، أو باسم الخط، أو باسم القضية (أي قضية؟) أو باسم الوجود، أو باسم الوطنية والوفاء لزعميهم الذي خدم منطقته بالوظائف والتسهيلات من دون إغفال طبعا بعض الخدمات والامتيازات البسيطة في عرف السياسية اللبنانية كرخص سيارات أو سلاح أو أرقام مميّزة وغيرها.
ثمة علاقة تكاملية بين الزعماء الحاليين وبين المغردين على “تويتر”. ما يحصل على وسائل التواصل الاجتماعي بالتأكيد يجعل الزعماء وأحزابهم ونوابهم يعيشون حاليا في هناء وطمأنينة بأن المحاسبة والمساءلة من المناصرين لقياداتهم لن تحصل يوما، وأنه يكفي ابتسامة على “بوستر” واستغلال الشعارات العقائدية والسياسية والوجودية لشحذ الهمم الافتراضية وً “رصّ الصفوف” متى احتدم الصراع بين القوى على السلطة.في حين كلّ ما يحصل فعليّا على أرض الواقع من انهيار سياسيّ واقتصاديّ واجتماعيّ يجعل من مساءلة كل زعيم واجبا أخلاقيا، لأجل كل ما يعتبره الشباب القضية والعقيدة والوجود على اختلاف انتماءاتهم. ثمة فهم خاطئ للحياة الحزبية أو السياسية في هذا البلد، فالمساءلة والمحاسبة لا تعني التخلي عن الانتماء والوفاء لزعيم أو لحزب، بل هو حقّ لإجبار الزعيم بالمعنى الإيجابيّ للعمل لخدمة الناس وتحديدا من ينتخبهم ويؤمن بهم. لكن الشباب اللبناني يعيد تكرار التاريخ الذي وقع فيه من سبقهم، والخوف الذي يفرضه هذا السلوك الآحذ بالانتشار وبالازدياد نحو الأسوأ يصبح مشروعا وضرورة لأنهم جيل زمن ما بعد الحرب المفترض الذي تمّ الرهان عليه للتقدّم وللتطوّر. فإذ بنا أمام معارك باسم الحقوق والعقيدة تخاض دفاعا عن مصالح الزعماء بأسوأ أشكالها من خلال شباب فقدوا بسبب سياسات كل الزعماء وأحزابهم ما هو حقّ لهم مثل الحصول على فرص عمل والتطوّر والتقدم والحصول على أدنى مقوّمات المواطنة المعترف بها في كل الكتب والدساتير.
ملاحظة: عبّر لي أحد الأصدقاء في مقالي الأخير أن مصطلح الزعيم ينافي الحياة السياسية والديموقراطية الصحيحة. أوافقه الرأي لكن الزعامة تمثّل واقعا في تكوين المجتمع اللبناني لا يمكن تجاهلها أو عدم الاعتراف بها، علّ الزعامة تعترف يوما بحقّ ناسها لكي تبقى.
يتبع…
محاضرة جامعية في الإعلام
باحثة دكتوراه في التاريخ والعلاقات الدولية
المؤسسة والمديرة التنفيذية ل “دياليكتيك”