الرياض كما تعرّفت إليها (2)
بقلم: فارس خشان

النشرة الدولية –

في الباحة الخارجية الفسيحة لمطعم “عزمي” في “يو ووك” في العاصمة السعودية، حيث تحيط بك الطاولات التي تجمع الرجال والسيّدات اللواتي يرتدين البرقع أو يكشفن كليّاً عن أوجهنّ، قال لي مضيفي السعودي، على إيقاع الأغنيات اللبنانية التي تصدح في الأجواء، وبسمة الارتياح ترتسم على شفتيه: “قبل سنين قليلة، لم يكن هذا ممكناً. كان مجرّد حلم بعيد المدى. الآن، تغيّر كل شيء. انتقلنا من عصر المحظور الى عصر الانفتاح”.

ما قاله مضيفي السعودي في هذا العشاء، سمعت كثيراً مثله، منذ حطّت طائرتي في مطار الملك خالد الدولي في الرياض.

لقد بدا واضحاً أنّ هذا المتغيّر الاجتماعي الذي أخذ مداه، بعد انتهاء إجراءات الإغلاق التي كانت قد استهدفت كبح جماح جائحة كوفيد- 19، يطبع الأذهان، ويشكّل حدثاً لا تطمس أهميته التطورات المتلاحقة.

ما نعتبره نحن الآتون من عواصم مختلفة مسألة بديهية لا يبدو كذلك لأبناء الرياض وسكانها، فهو، بالنسبة إليهم، نقلة نوعية. كان الشباب لا يجلس في مكان واحد مع الشابات. وكانت الموسيقى محظورة. وكانت النساء ملزمات بإخفاء وجوههن. كانت المرأة بالنسبة الى الرجل كائناً مختلفاً، وكذلك حال الرجل بالنسبة الى المرأة.

حالياً، إنتهت كل هذه المحظورات. لقد أصبح المجتمع السعودي متحرّراً من الإلزام الذي كانت تسهر عليه “شرطة دينية” تحوّلت، في كثير من الأحيان، إلى “محاكم التفتيش” كتلك التي هيمنت، في عصور مضت، على غالبية المجتمعات الأوروبية.

ولكنّ “نهاية الإلزام” لا تعني، بأيّ شكل من الأشكال “نهاية الإلتزام”، فالتديّن في السعودية ميزة حاضرة بقوة، بل بات يمكن قياسها، في الوقت الحالي.

ماضياً، لم يكن أحد قادراً على التمييز بين “المخيَّرة” وبين “المضطرة”. راهناً، بات هذا التمييز ممكناً، لأنّ اللواتي لم يتخلين عن براقعهنّ لسن بقلّة.

وبمبالغة المبتدئين، سحرني هذا المناخ الاجتماعي السعودي، إذ إنّني توجّهت الى الرياض، للمرة الأولى في حياتي، من باريس، حيث يحتدم النقاش، في كل موسم انتخابي، حول حق المسلمات في ارتداء البرقع أو الحجاب أو الثياب الشرعية، ومدى تأثير ذلك على صورة المجتمع الفرنسي.

في الرياض، أسقط تعايش “الاختلاف الأزيائي” لدى النساء هذا النقاش، فاللواتي يرتدين الأزياء الأوروبية لا يغيّرن شيئاً في صورة المجتمع السعودي المتديّن الذي تعبّر عنه اللواتي يرتدين البرقع والعباءة. العكس هو الصحيح، فكلاهما يجعل المشهد الاجتماعي المتنوّع أجمل.

وفي مطلق الأحوال، إنّ هذا التطوّر الاجتماعي الذي قد يعتبره الوافدون الى الرياض “طبيعياً”، هو ليس كذلك، كلّياً، بالنسبة للشباب السعودي.

قبل سنوات قليلة، كانت العائلات السعودية تسافر، في مواسم السياحة، الى الخارج، حيث يمكن للشباب والشابات أن يتعرّفوا الى بعضهم بعضاً، فيكون ذلك تمهيداً لزواج “عيني”.

حالياً، وبفعل هذا التطوّر، لم تعد ثمّة حاجة سعودية ملحّة الى “سياحة التعارف”، كما الى “سياحة الترفيه”، إذ إنّ “ابتسم أنتَ في الرياض” لم يعد مجرّد شعار، بل أضحى “خطة عمل”.

وهذه الخطة لا تستثني وجهاً من وجوه الترفيه: الحفلات الغنائية والسهرات الموسيقية، مدن الملاهي، النشاطات الرياضية والثقافية والفكرية، دور السينما، التلفزيون المفتوح على كل العالم وإنتاجاته وإبداعاته.

والأهم في كل ذلك أنّ هذا التطوّر الكبير في حياة السعوديين، وخلافاً لما كان يخشى منه كثيرون -ويتمنّاه البعض- لم يحدث شرخاً في المجتمع، ولم يكن “مغامرة غير محسوبة” خاضها ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان.

العكس هو الصحيح، لقد تبيّن أنّ هذا الإنفتاح “ليس أمراً سامياً” بل هو قرار يعكس فهماً عميقاً لحاجات المجتمع السعودي الذي يتألّف، بغالبيته، من الشباب.

ويكفي للمراقب أن يسير، في “واحات الرياض” السياحية والإقتصادية، ويتأمّل في ملامح السعوديين الذين يمرون به، ليدرك أنّ هؤلاء يتعاطون مع ما يحصل في بلادهم، بما هو أهم من الترفيه بكثير. إنّهم فخورون.

وثمّة قصة حصلت معي، يمكنها أن تعطي بعضاً من ملامح ذلك: في طريقي الى “الحي الدبلوماسي” حيث كنتُ على موعد، سألتُ سائق “يوبر” عمّا إذا كانت السيارات التي تعمل، وفق هذا التطبيق الدولي، متوافرة بوتيرة سريعة، في “الحي”، عندما أنوي مغادرة الاجتماع، حتى أستطيع تنظيم وقتي، فأبلغني أنّها كذلك، لكن تبيّن لي، عندما طلبت سيارة أنّها ليست كذلك، فانتظرت أكثر من أربعين دقيقة لتأمين واحدة. وعندما استقللت السيارة التي يقودها السعودي “تركي” أخبرته بما حصل ولمتُ زميله وقلت إن تصوير الأمور على غير حقيقتها يضر بسمعة بلادهم وشعبهم، وإذا بالسائق “تركي” لا يكتفي بتقديم اعتذاره عن سيئات “زميله”، بل إنّه عندما أوصلني الى مقصدي، أصرّ على رفض تقاضي الأجرة المستحقة. لم ينفع إلحاحي على الدفع في تليين موقفه، وقال لي: “أهلاً بك في الرياض، عاصمة الانفتاح والالتزام والصدق”.

لقد بيّن لي البريد الإلكتروني الذي تلقيته من “يوبر” أنّ تركي سدّد من جيبه الخاص، المبلغ الذي رفض أن يتقاضاه منّي، دفاعاً عن سمعة أبناء عاصمته.

يمكن الحديث مطوّلاً عن الرياض والتطور الحاصل فيها، ولكن بما أنّ لكل شيء ختاماً، فما هي الخلاصة الممكنة؟

في الحوارات الهادفة الى تعميق فهم ما يحصل في الرياض، وهو وجه من وجوه التطور الهائل في غالبية أنحاء المملكة العربية السعودية، ثمّة من يعيدك الى مرحلة ما قبل العام 1979. بالنسبة الى هؤلاء إنّ المملكة تعود اجتماعياً الى ما كانت عليه قبل “الثورة الإسلامية في إيران” و”حصار الحرم الملكي الكبير”.

وهذا يعني أنّ القيادة السعودية تثق بأنّها أصبحت أقوى من أن يفرض ما يسمّيه الغرب بـ”الإسلام السياسي” شروطه عليها وعلى المجتمع.

والأهم في ذلك، أنّ غالبية السعوديين مطمئنون الى هذا التطور الحاصل في بلادهم، إنمّا يرتكز على قاعدة “الاستقرار”.

وتنطلق هذه الغالبية في رؤيتها هذه من أنّ ما يحصل اليوم، مقدّر له أن يستمر، لأنّ من يقوده هو الأمير الشاب محمد بن سلمان من موقعه ولياً للعهد وسوف يزخّمه عندما يعتلي العرش.

إنّ السعودية لا تعيش، اليوم حلماً بل هي في طور تجسيد هذا الحلم. إنّها، في وضعية مختلفة عن دول أخرى، كالجمهورية الإسلامية في إيران التي لا تتوقف عن بيع شعبها الأحلام، فيستيقظ كل صباح على كابوس.

 

زر الذهاب إلى الأعلى