التهديدات الإقليمية في آسيا
بقلم: بروجيكت سنديكيت
النشرة الدولية –
في آسيا اليوم، الاقتصاد عالمي، والسياسة محلية، والأمن محلي وإقليمي وعابر للحدود. لقد ذَكَّـرَت عودة حركة طالبان السريعة إلى السلطة في أفغانستان الآسيويين بأن أمننا مترابط، وعلى نحو مماثل، أثارت جائحة مرض فيروس كورونا 2019 (كوفيد 19) السؤال حول كيفية هندسة النهضة الاقتصادية لمصلحة المنطقة بأسرها.
هذه ليست نهاية التحديات التي تواجه المنطقة، فبين المجابهة الجارية على الحدود الهندية- الصينية، والتوترات حول تايوان وبحر الصين الجنوبي، والمسار غير المؤكد لبرنامج إيران النووي، من الواضح أن آسيا أصبحت الآن بؤرة للمخاطر الأمنية.
وكان انسحاب الولايات المتحدة من أفغانستان السبب وراء اضطرار القوى الإقليمية- الصين، وروسيا، وباكستان، بموافقة إيران- إلى تكوين تحالف للتعامل مع قوى التطرف والإرهاب التي سترعاها «إمارة طالبان الإسلامية»، وستحاول باكستان، التي تولت رعاية «طالبان» فترة طويلة، منع فرض «طابع طالبان» على سياستها، لكن الإسلاميين الراديكاليين داخل حدودها جرى تمكينهم وتشجيعهم بالفعل، والآن تواجه كل من الصين، وباكستان، وروسيا، وبلدان آسيا الوسطى احتمال أن يجد الانفصاليون والمتطرفون المحليون الملاذ الآمن والأسلحة والدعم في أفغانستان الجديدة التي تسيطر عليها «طالبان».
وتتمثل الاستجابة الأوسع حتى الآن في محاولة تنشيط التعاون بمكافحة الإرهاب في إطار منظمة شنغهاي للتعاون، وهي مجموعة إقليمية تضم الصين، والهند، وباكستان، وروسيا، وبلدان آسيا الوسطى الـ 4، كازاخستان، وقيرغيزستان، وطاجيكستان، وأوزبكستان.
في الهند، يرفع التغيير في أفغانستان مستوى التهديد بشكل هامشي، لكن هذا لأن الهند تبدأ من خط أساس أعلى، فعلى مدار عقود من الزمن، واجهت الهند تهديداً كبيراً يتمثّل في الإرهاب العابر للحدود من باكستان، وقد حققت نجاحاً متزايداً في التعامل مع المشكلة.
في السياق الإقليمي الأوسع، تصبح الولايات المتحدة بعد انسحابها من أوراسيا حرة في التركيز على أولويتها الاستراتيجية الرئيسة: احتواء الصين بحرياً.
في سبتمبر، استضافت واشنطن أول قمة للرباعية (أستراليا، والهند، واليابان، والولايات المتحدة) يحضرها المشاركون بشخوصهم، وكشفت النقاب عن اتفاقية AUKUS التي تقضي بتزويد أستراليا بغواصات نووية هجومية (أول تحويل من نوعه لدولة غير مسلحة نووياً)، وبمجرد نشرها ستكون غواصات أستراليا النووية الثماني قادرة على تغيير التوازن العسكري في البحار القريبة من الصين.
تطورت «الرباعية» من منتدى للحوار الأمني إلى مؤسسة في العالم الحقيقي قادرة على تقديم منافع عامة قيّمة في مجالات الأمن السيبراني، والصحة العامة، وتغيّر المناخ، والتكنولوجيا، وسيظل الأمن الإقليمي والبحري يعتمد على ترتيبات التعاون الثنائية والثلاثية والمتعددة الأطراف، وسلسلة القواعد الأميركية في المنطقة، وقدرة التشغيل البيني التي تنشئها تدريبات عسكرية مثل مناورات ألعاب الحرب البحرية مالابار، وإذا جرى تنفيذ هذه الترتيبات بشكل كامل، فستشكل استجابة شاملة ومرنة لصعود الصين وميزان القوى المتحول في منطقة الهادي- الهندي.
اللعبة الكبرى الجديدة
على الرغم من أن التوترات الصينية- الأميركية المتصاعدة أثرت في المقام الأول حتى الآن على البلدان والبحار الواقعة شرق الهند، فإنها ستتسرب غرباً قريباً، وفي المنافسة الجديدة بين القوى العظمى، تصبح منطقة الهادي- الهندي بالكامل مسرحاً للأحداث، فقد ذهب أمل إدارة بايدن الأولى في تجزئة وتقسيم مناطق المنافسة والتعاون (فيما يتصل بتغيّر المناخ على وجه التحديد) أدراج الرياح، وربما إلى الأبد، بسبب إصرار الصين على أن تظل كل القضايا مترابطة، وفي الوقت ذاته، من الصعب أن نرى كيف يظل التنافس الاستراتيجي الصيني- الأميركي على حدته، رغم الاتكالية الاقتصادية المتبادلة بين الجانبين.
تفرض المنافسة الصينية- الأميركية اختيارات صعبة على البلدان الأخرى في آسيا، إذ تطلب بلدان عديدة في رابطة دول جنوب شرق آسيا الأمن من الولايات المتحدة، في حين تعتمد اقتصادياً على الصين، وعلى هذا، فقد استجابت الحكومات في مختلف أنحاء المنطقة بتأمين رهاناتها احترازياً، فهي تعمل على تشكيل تحالفات محلية حيثما أمكن، في حين تحرص على تجنّب الاضطرار إلى الاختيار بين الصين والولايات المتحدة، ولكن بالنظر إلى مسار العلاقات الصينية- الأميركية، يتبقى لنا أن نرى ما إذا كان هذا الخيار الاستراتيجي سيظل متاحاً لها، فالأمر الواضح بالفعل هو نفور هذه الدول من تكوين أي حلف آسيوي أشبه بحلف شمال الأطلسي، ويفسّر بناء التحالفات كشكل من أشكال التحوط، استمرار أهمية دول مجموعة البريكس (البرازيل، وروسيا، والهند، والصين، وجنوب إفريقيا)، ومنظمة شنغهاي للتعاون، وغير ذلك من البدائل.
وتتمثل استراتيجية تحوط أخرى في بناء قدرة رادعة، وعلى مدار العقود الثلاثة الأخيرة، كانت آسيا موقعاً لسباق تسلّح متزايد الحدة (والذي قادته الصين). والآن يوجد حزام من الدول المسلحة نووياً يمتد من البحر الأبيض المتوسط إلى المحيط الهادئ، ومن إسرائيل إلى كوريا الشمالية، فقبل اندلاع جائحة «كوفيد 19» مباشرة، كانت الحيازات من الأسلحة الهجومية قد بلغت مستويات جديدة من الارتفاع، وربما يُـنظَر إليها الآن على أنها شكل فعّال من أشكال التحفيز لدفع التعافي.
في الوقت ذاته، دفع سلوك الصين العدواني على خط السيطرة الفعلية في منطقة جبال الهيمالايا، الهند إلى مضاعفة جهودها في تعزيز علاقاتها العسكرية والاستخباراتية مع واشنطن، والآن يتمركز أكثر من 100 ألف جندي على طول الحدود، وأوضح كبار المسؤولين في الهند أن شراكة البلاد مع الولايات المتحدة يجب أن تزداد عمقاً، حتى لو لم يكن التحالف الرسمي وارداً.
ستظل الحدود بين الهند والصين قضية سريعة الاشتعال، لأنّ التصرفات الصينية ألقت بظلال من الشك على الجدوى من تدابير بناء الثقة المعمول بها منذ عام 1993، ويشير كلا الجانبين إلى رغبته في الابتعاد عن المواجهة، لكنّهما يختلفان حول كيفية القيام بذلك، حيث تسعى الهند إلى استعادة الوضع الذي كان سائداً على الحدود قبل ربيع عام 2020، وبالتالي ربط قضية الحدود ببقية العلاقات الثنائية، وتأمل الصين دفع العلاقة إلى الأمام، مع الحفاظ على الوضع الراهن الجديد الذي أوجدته، وتستمر التجارة بين البلدين في النمو، مسجلة أرقاماً غير مسبوقة في النصف الأول من عام 2021، لكن من غير الممكن أن تتوافق العلاقات التجارية الثنائية مع التوغلات العدوانية على الأرض.
تشمل تهديدات أخرى للأمن الإقليمي نقاط توتّر باتت مألوفة حالياً، مثل بحر الصين الجنوبي، وتايوان، وجزر سينكاكو- دياويو، فضلاً عن بعض المخاطر العابرة للحدود الأحدث عهداً بعض الشيء، مثل الهجمات السيبرانية (الإلكترونية)، وتغيّر المناخ، وأزمات الطاقة، والجوائح، والآن بعد أن أبطلت الصين الحكم الذاتي في هونغ كونغ ودمرت مصداقية سياسة «دولة واحدة ونظامان»، أصبحت تايوان خاضعة لقدر متزايد من القهر العسكري والضغوط من البرّ الرئيسي.
هل ينبغي لنا أن نقلق من أن تؤدي كل هذه الحرائق المتفرقة إلى اشتعال حريق هائل؟ أعتقد أن نشوب حرب بين قوى عظمى أمر غير مرجّح، على الأقل في البيئة الحالية، فعلى الرغم من أن العديد من القوى الآسيوية رجعية تحريفية، فإن أي مكاسب يمكن جنيها من أي صراع مباشر لا تبرّر التكاليف المحتملة، وعلاوة على ذلك، يجب أن يساعد الردع النووي في الحفاظ على السلام بين القوى الكبرى، ومع ذلك من المؤكد أن مخاطر المناوشات المحلية، والحروب الأهلية، والصراعات بالوكالة تنامت بشكل ملحوظ، وكذا مخاطر سوء التقدير والحوادث.
والأمر الأكثر إثارة للقلق إذاً هو عجز النظام الدولي والإقليمي عن معالجة هذه القضايا، والتي كان أغلبها واضحاً ومتفاقماً لبعض الوقت، فقد تمكّن الضعف من مؤسسات الحوكمة العالمية على نحو مطّرد، هذا فضلاً عن غياب المؤسسات الأمنية الإقليمية الفعالة بشكل ملحوظ، كما يغيب التوازن بين القوى أو أي مجموعة من القواعد والأعراف والممارسات التي من شأنها أن تضمن علاقات مستقرة يمكن التنبؤ بها بين الدول في آسيا، ونظراً لتخوفاتها إزاء بقائها السياسي في المقام الأول، تعتمد الحكومات على نحو متزايد على النزعة القومية والشعبوية لتأسيس شرعيتها، مما يترك مجالاً أقل للمناورة في التصدي للقضايا الأمنية الإقليمية، أو ملاحقة حلول متعددة الأطراف.
في الوقت الحالي، يبدو أن آسيا محكوم عليها بأن تعيش حالة مزمنة من انعدام اليقين والآفاق المتزايدة الظُّلمة.
* شيفشانكار مينون وزير خارجية الهند ومستشار أمنها الوطني سابقاً، وهو أستاذ زائر في جامعة أشوكا.
«بروجيكت سنديكيت، 2021» بالاتفاق مع «الجريدة»