الفلسطينيون والمعركة القادمة
بقلم: د. سنية الحسيني
النشرة الدولية –
رغم أنها الأشد والأكثر كثافة، كما تشير تصريحات المتابعين، لا تعتبر اعتداءات المستوطنين الأخيرة على الفلسطينيين الحدث الأهم، إذ أن تحدي هجمات المستوطنيين والتصدي لها هو الحدث الأكثر أهمية اليوم. والسؤال الذي يطرح نفسه الآن، هل بدأت المعركة الحاسمة بين الفلسطينيين ومحتلهم؟ بعد أن أسقطت إسرائيل آخر غصن للزيتون من بدهم. لم تكن الحالة التي وصلت اليها أوضاع الضفة الغربية بمفاجئة لكثير من المتابعين، فتاريخ إسرائيل ومصالحها المعلنة، وسياساتها الممنهجة تشير إلى ضرورة الوصول إلى حالة المواجهة والاشتباك مع الاحتلال في النهاية، إذ أن الشعب الفلسطيني لم يكن يوماً شاهد زور أو متفرجاً على مؤامرات الاحتلال المستمرة بحقه والتي تهدف صراحة لنهب أرضه وتهميش وجوده ونفيه عن وطنه وهو ساكن فيه. قد يكون من المفيد إعادة تشخيص الحالة الفلسطينية اليوم، ومراجعة واقع الفلسطينيين في الضفة الغربية بما فيها القدس، المستهدفين الرئيسيين في معركة الأرض مع الاحتلال، في إطار وضع المعطيات اللازمة لمرحلة المواجهة والاشتباك القادمة.
تشير العديد من الشواهد أن الحركة الصهيونية ومن بعدها إسرائيل لم تأت إلى فلسطين أو تستولي عليها كي تقسم الأرض بينهما وبين أهلها، فاختارت الحركة الصهيونية السيطرة على غرب وشمال فلسطين في البداية، على الرغم من أن ادعاءاتها الدينية التي اعتمدت عليها تتركز في الأساس على شرق وجنوب فلسطين بما أسمته “يهودا والسامرة”. وأوعزت الحركة الصهيونية إلى لجنة بيل عام ١٩٣٧، الجهة الأولى تاريخياً التي أشارت إلى فكرة التقسيم، رغبتها بالسيطرة على الساحل الغربي والجزء الشمالي من أرض فلسطين. تاريخياً، اهتمت الحركة الصهيونية بالحصول على الأرض ونفي أهلها، فادعت في البداية بأن فلسين “أرض بلا شعب”، وبعد أن اتضح صعوبة إنكار الوجود الفلسطيني المتجذر في الأرض، انتهجت سياسة تقوم على السيطرة على الأرض والتمدد التدريجي فيها، وغرس مهاجرين غرباء عنها فيها، وطرد أهلها الأصليين منها.وقامت الحركة الصهيونية في النهاية بطرد مليون فلسطيني عن أرضه دفعة واحدة، في إطار تركيزها على امتلاك عامل القوة، ونفيه عن الطرف الآخر لتحقيق أهدافها.
لم تختلف توجهات الصهيونية الدينية أو الصهيونية القومية التي تحكم إسرائيل منذ قيامها عام ١٩٤٨ حول قضية الأرض والسيطرة عليها، فأزال احتلال عام ١٩٦٧ أية تباينات أيديولوجية بين الطرفين، فيما يتعلق بالسيطرة على الأرض الفلسطينية، ونفي سكانها عنها، في مخطط استكمال السيطرة على ما تبقى من فلسطين. بدأت إسرائيل بمخطط استيطان الأرض وإحلال اليهود مكان أهل البلد الأصليين، إسترشاداً بالمرحلة الأولى، التي سبقت عام ١٩٤٨، منذ اليوم الأول للضفة الغربية وقطاع غزة، وتجسد ذلك في خطة الاستيطان الأولى “آلون” التي جاءت عام ١٩٦٨ بمبادرة من حكومة حزب العمل العلمانية، التي أعلنت أنها “لن تعيد أي قطعة أرض محررة”، ووضعت اللبنات الأولى للاستيطان في القدس والخليل، وحاولت أن تمحي أو تلغي خط الهدنة، كما أكدت على أهمية السيطرة على الحدود الشرقية مع الأردن، لضمان الأمن، وطرحت لأول مرة فكرة الحكم الذاتي للسكان الفلسطينيين. خلال السنوات العشرة من حكمها، في أعقاب احتلال عام ١٩٦٧، شجعت حكومة حزب العمل، بائتلاف ضمن حزب المفتال الديني، الذي جاء حزب الليكود اليميني من رحمه، المتدينين الإقامة في المستوطنات التي تقيمها، وأقامت مدرسة دينية في الخليل عام ١٩٦٨، ودعمت منظمة غوش إيمونيم المتطرفة، التي قادت عملية استيطانية واسعة في جميع أنحاء الضفة الغربية رافضة للالتزام بما جاء في خطة “آلون” فقط، والتي تمثل أماً لمعظم المنظمات الإرهابيةاليهودية الصهيونية التي جاءت في الأراضي الفلسطينية المحتلة بعد ذلك. في نهاية عهدها عام ١٩٧٧، نجحت حكومة حزب العمل، التي بدأت عام ١٩٦٨ بخمس مستوطنات و٢٥٠ مستوطن فقط،برفع ذلك إلى ٢٦ مستوطنة و١٣٠٠ مستوطن.
بمجرد استلامها السلطة، لأول مرة في تاريخها، وضعت حكومة الليكود بقيادة مناحم بيجن خطة غوش ايمونيم الاستيطانية موضع التنفيذ، وبدأت بعملية استيطانية شاملة في جميع الأراضي الفلسطينية المحتلة عام ١٩٦٧، دون قيد أو شرط، كما تبنت فكرة الحكم الذاتي، التي طرحها بيجين خلال مفاوضات كامب ديفيد في اطار محادثات السلام مع مصر عام ١٩٧٨. ظُهر مجلس المستوطنات “ييشيع” أو ما يعرف أيضاً بمجلس البلدات اليهودية في الضفة الغربية منذ عام ١٩٧٨، ليستكمل مسيرة حركة غوش ايمونيم، التي تراجعت مكانتها، في تمثيل المستوطنين بشكل رسمي، وتعزيز المشروع الاستطاني بشكل رئيس بالتعاون مع سلطات الاحتلال، وبقي المجلس يحمل ذات المهمة بعد توقيع إتفاق أوسلو عام ١٩٩٣، وحتى اليوم. استطاع مجلس المستوطنات أن يفرض سيطرة فعلية على ٦١ في المائة من الأراضي الفلسطينية، ما بين عامي ١٩٧٩ و١٩٩١، وهي ذات المناطق المصنفة “ج” حسب إتفاق أوسلو، من خلال سلسة من الأوامر العسكرية، والتي بدأت من بداية الاحتلال بالأمر العسكري رقم ٥٨ / ١٩٦٧، الذيأتاح لسلطات الاحتلال السيطرة على الأراضي الخاصة، التي غادر أهلها البلاد، والأمر رقم ٥٩ / ١٩٦٧، الذي سمح لقوات الاحتلال بوضع يدها على جميع الأراضي الحكومية. وفي أعقاب احتلال إسرائيل الضفة الغربية، وضعت سلطات الاحتلال يدها على صلاحيات التخطيط التي يقرها قانون تنظيم المدن والقرى والأبنية الأردني، والذي كان سارياً قبل الاحتلال. عدل الاحتلال هذا القانون يعد ذلك والغى لجان تنظيم المدن المحلية واللوائية التي كانت تمثل السكان الفلسطينيين، وتم نقل صلاحياتها إلى المجلس الأعلى للتخطيط، والذي يشغله ضباط عسكريون. وما بين الأمر العسكري رقم ٧٨٣ / ١٩٧٩ والأمر العسكري رقم ٨٩٢ / ١٩٨١، بدأ مجلس المستوطنات تدريجياً بسط سيطرته على مساحات شاسعة من الضفة الغربية، والتحكم بمصيرها ومصير سكانها وفق مخططات الاحتلال الاستيطانية.
منذ أوسلو، ركزت الحكومات الإسرائيليةالمختلفة على الاحتفاظ بالسيطرة الكاملة على مناطق “ج”، وسابقت الزمن لخلق واقع جديد في هذه المناطق، بتوسيع رقعة المستوطنات وزيادة أعداد المستوطنين وخلق شبكة مواصلات واتصالات بين هذه المنطقة وقلب الأراضي المحتلة عام ١٩٤٨ ومراكز المدن فيها. استخدمت حكومة الاحتلال مؤسسات الظل وعلى رأسها مجلس المستوطنات، لتنفيذ سياساتها الاستيطانية، دون الظهور في الصورة، لأسباب سياسية. ويعتبر مجلس المستوطنات مؤسسة فوق حكومية، اذ تضم في عضويتها المجالس البلديةوالإقليمية في الضفة الغربية، وتعمل قياداتها في مناصب عليا في الوزرات الحكومية، خصوصا تلك التي تتعلق بعمل وتنمية وتطوير المستوطنات، وتحظى بدعم مختلف الأحزاب المنضوية تحت قبة الكنيست. يحصل المجلس على مزايا مالية وخدماتية حكومية خيالية، بعضها مباشر وأغلبها غير مباشر.
وتدعم الحكومات الإسرائيلية على اختلاف توجهاتها الاستيطان صراحة، اذ تصرف على المستوطن في الضفة الغربية ضغف واحيانا ثلاثة أضعاف ما تصرفه على المواطن العادي في المدن الإسرائيلية. وتقدم الحكومة حوافز عديدة لتشجيع الاستيطان، بدءاً بتخفيض أسعار السكن والامتيازات الضريبية لتشجيع المشاريع المختلفة الصناعية والزراعية وحتى الرعوية. وتستخدم سلطات الاحتلال أيضاً الصندوق القومي اليهودي، الذي صرح عن عمله العام الماضي، في إطار مناطق الضفة الغربية،لتسهيل عملية نقل الأراضي من الدولة لمجلس المستوطنات، للتغطية على دورها المباشر في عمليات الاستيطان. كما تفعل حكومة الاحتلال دور الجهاز القضائي لخدمة الاستيطان والمستوطنين، في اطار سن الكنسيت لقوانين تعرقل عملية الطعون في تزوير عمليات شراء الأراضي من الفلسطينيين، ناهيك عن الأوامر العديدة التي تعطل عمليات البناء والاستثمار والتنمية من قبل الفلسطينيين في مناطق “ج”. وأخيرا، تستخدم إسرائيل الجماعات والمنظمات الإرهابية، لضمان استمرار عمليات التوسع الاستيطاني وسرقة الأراضي وترهيب الفلسطينيين، بسسب التزاماتها السياسية، فتدعم هذه الجماعات في تشييد البؤر الاستيطانية، التي تضمن استمرار التوسع الاستيطاني، دون تحمل تبعات ذلك سياسياً، فتوفر الدعم المالي واللوجستي وكذلك الحماية لهذه الجماعات، ولا تكتفي بعدم اخلاء هذه البؤر أن صدر قرار قضائي ضد وجودها، بل تعمل على شرعنتها وتبيضها عندما تحين الفرص.
إنها معركة الأرض، فاستراتيجية الصمود والتحدي بالبقاء لم تعد تكفي وحدها لمواجهة هذا التغول والتوحش الصهيوني المخطط والمدروس والمتفق عليه عموماً من قبل دولة الاحتلال، والذي ينفي صراحة الوجود الفلسطيني الأصيل ويستبدله بوهم الصهيونية المصطنع ومصالح استعمار شره، لم يعد قادراً على إخفاء نواياه. لقد أثبتت الأحداث الأخيرة في برقه وبيتا وغيرها من المناطق الفلسطينية، أن إسرائيل لا تعرف الا لغة واحدة، هي لغة القوة والحشد والمواجهة، اذ أن المواجهة القادمة تحتاج إلى العمل الجماعي والتصدي المشترك، ليس فقط لصد اعتداءات المستوطنيين، وإنما لاسقاط مخطط الاستيطان والوجود اليهودي برمته في أرضنا المحتلة عام ١٩٦٧، إنها معركة كسر العظم، فإما أن ننصر أو ننتصر.