قراءة في رواية “لحظات لا غير” لفاتحة مرشيد: الكتابة بوصفها بديلا وجوديا لهوية الذات
النشرة الدولية – عبد الغفور روبيل –
تمهيد:
الكتابة هي وهج الحياة وباعثة الروح للنفس البشرية التي تعاني ثقل الوجود ورتابة الحياة اليومية، لذلك نكتب من أجل أن نقتل الضجر الذي يسكن بداخلنا ويجعلنا بؤساء أمام عبثية الواقع.
لقد أجبرت المرأة على إلزام الصمت عبر قرون طويلة، بسبب قبضة الهيمنة الذكورية التي كانت ولا تزال تتحكم فيها وفق نظام دقيق وخفي يصعب ملاحظته ونقده بفكر سطحي، مما يتطلب تعمقا وأكثر موضوعية وعلمية في تناول قضية المرأة وعلاقتها بنظام الهيمنة، والذي جعل صوتها مقبورا لا نحتاج إلى سماعه، أو وصفه مجرد ثرثرة على جوانب الحياة… وبالتالي ارتبطت المرأة بصفة الصمت كدليل على صفاتها الأنثوية، إلى جانب حرمانها من ممارسة الكتابة، أو كتابة ما لا يتعلق بها.
أكدت مجموعة من الدراسات هيمنة الرجل على الكتابة، والتحكم في أسس الخطابات التي توجه عقلية المجتمع، بوصفه القائد الأعلى، والوصي على المرأة، والابن الشرعي للوجود، ومالك زمام الواقع، وحقيقة الحياة، وواضع قوانين الامور والمتحكم في نظمها. لذا ارتبطت الكتابة بالرجل والشفهي بالمرأة، مما يفسر عملية الحكي والسرد الشفهي التي كانت تمارسها الجدات بمسابة رمز دال على الحرمان من الكتابة، رغم امتلاكهن ذاكرة التاريخ، وحكمة التجربة، كل هذا بفعل الدور الذي حدد لهن من طرف الهيمنة الذكورية، بل أكثر من ذلك جعلت منهن أداة لتكريس هذه الهيمنة، وتنشئة الأبناء على ذلك، “خاصة الإناث”.
يرجع لجوء المرأة إلى الكتابة والحكي بهدف كشف القهر الذي يمارس عليها، وشرخها الوجودي، ومأزق تاريخها الخاص، وفداحة ماضيها وحاضرها، وضبابية مستقبلها، وجحيم معاناتها ومآسيها في علاقتها مع ذاتها وبالآخر.
الكتابة بوصفها البديل الوجودي لهوية الذات في رواية “لحظات لاغير” لفاتحة مرشيد:
لقد ظهرت الكتابة في رواية “لحظات لا غير”، وسيلة للتحرر من قيود المجتمع، والرئة التي نتنفس بها عبق الحياة، وتصالحنا مع ذواتنا، وقاتلة للضجر والوحدة، والمعالج النفسي… هذا ما يكشفه القول الروائي في علاقة الكتابة بالذات الساردة (أسماء) في مجموعة من الارساليات السردية، “تذكرت أستاذ اللغة العربية وقد غضب مني، عندما علم أنني سأرتاد كلية الطب.
قال لي ‘أنت كاتبة وهذا ليس اختيار.. ادرسي الطب إن أحببت لكن أن تنقطعي عن الكتابة، تتحررين وأنت تكتبين، وسيحسدك الآخرون لأنك تستطيعين أن تتنفسي[1].
“كما عدت إلى الكتابة بانتظام كمكمل لعلاج نفسي بدأته صدفة منذ ثمانية أشهر على يد مريض حاول الانتحار.
بكل اختصار: قررت أن أحيا.”[2]
إذا كانت الوحدة والاختناق والمرض النفسي الذي تعانيه ذات أسماء، حيث تبدو سيرورتها الوجودية مقترنة بالهشاشة والضعف والضياع، ما دفعها للجوء إلى الكتابة بوصفها بديلا لأزمة الذات وتحريرها، ومكملا للعلاج النفسي، فأسماء أرادت أن تحيا بالكتابة، كسلاح ضد القيود والمعاناة التي تعيشها في مجتمع ذكوري قائم على الهيمنة.
إن الكتابة تستمد رمزيتها من سلطة البديل الوجودي الذي تعانيه الذات (أسماء)؛ حيث تغدو الكتابة أداة لتحقيق كينونة وجودية جديدة، والمتمثل في قرارها أن تحيا الحياة، فتنفصل بموجبها الذات عن وجودها المأساوي، لتؤسس وجودا بديلا قوامه الامتلاء والحب والاستقرار، وهدم كل قيود المؤسسات التي تكبلها.
يؤسس هذا الوضع الوجودي الذي يستبدل الأزمة بالكتابة، تصورا سرديا قوامه أهمية الكتابة في تطويع الأزمة، وبناء الذات، والتصالح معها؛ لأن من يحتمي بالكتابة كما يقول عبد الرحمن تمارة “في عز أزمته يستطيع بناء وجوده على إيقاع التجدد، وبالتالي تشتغل الكتابة كآلية تمسرح الذات بين ألم الكينونة في الوجود، وأمل تجاوز القهر الذي يفرزه ذلك الألم”[3].
لقد أضحت الكتابة عند أسماء تعبيرا عن جراحها وآلامها، وعن أزمتها النفسية والجسدية، فالقلم الذي قطعت علاقتها به لمدة عشر سنوات، جعل الجسد ينتفض بسلاح المرض قائلا “واقلماه الذي يبدد أزمتي وأرق تفكيري “[4]، نظرا ما تمنحه الكتابة من حرية في التعبير، ووصف مما تختلجه النفس البشرية، دفع “أسماء” إلى دخول في مشروع الكتابة من خلال مجموعة قصصية قصيرة “وجهان ووسادة”، من أجل بناء ذات جديدة تمتلك هوية حقيقية تعبر عن انسانيتها، وإعطاء متنفس لها، وامتصاص الإحباط الذي تشعر به، وقتل كل من تسبب في عذاب الذات، فالكتابة تملأ الفراغ الذي يخلفه من هم حولنا، ومنح صدى للذات عبر سيرورة الوجود، وقلب رتابة الحياة اليومية، إلى الرقص بطرب القلم على أرضية بيضاء، تملؤها بنبضات القلب وسمفونية الروح، ونجوم الأفكار التي تتناثر هنا وهناك، معلنة على قيام عرش الكاتب فوق الكتابة، ضامنة استمرار وجوده المادي والتجريدي معا بعد فنائه. لهذا أرادت أسماء أن تستمر علاقتها بوحيد بإرادة الكتابة، بعدما انتصرت إرادة الواقع “الموت” على إرادة الرغبة والحلم “استمرار علاقة أسماء بوحيد إلى ما لا نهاية”، بالإضافة إلى طموحها أن تضمن الخلود لذاتها، وأن تنجب أبناء رمزيين، بعد أن حرمت من إنجاب أبناء حقيقيين.
فأريج الكتابة لم يقتصر على الذات الساردة التي وجدت الحياة في روح القلم، فوحيد استرجع توازنه الوجودي بفضل الكتابة التي تعد مغذي الروح والكاشفة عن الجرح الداخلي، والمضمد له حسب وصف أسماء، “أكاد أراه خلف السطور يضمد بالقلم ما ينبض حيا بداخله، تماما كما تضمد الجراح بقطع الشاش الطبي”[5].
فوحيد كانت له رغبة دفينة في ضمان الخلود لذاته بوصفه أولا شاعرا، وثانيا لأنه حرم من أنجاب أطفال مع سوزان، رغم عدم وجود سبب عضوي في ذلك كما يقول، “كلنا ينشد الخلود، المبدع عبر إبداعاته، وغير المبدع عبر ذريته.. كل منا يود أن يترك أثر خطواته فوق قشرة العالم”[٦].
إن رغبة الذات في الحياة هو ما يدفعها إلى البحث عن منافذ جديدة، تمكن النفس على العيش بحرية، وامتصاص ما يمكن امتصاصه من رحيق الحياة، التي لا تنحصر فقط في العلاقة بالآخر، أو بالعمل، أو في مزاولة مهام أخرى، بقدر ما قد تتجلى الحياة في اقترابك من ذاتك، وسبر أغوارها، وذلك عن طريق عرضها أمامك، بواسطة التفكير أو التأمل في هذا الوجود، فالحياة لا تنحصر في إنجازاتك بقدر ما هي موجودة في ابداعاتك الفنية والجمالية والنفسية (الفرح، الاكتئاب، اليأس، الرتابة)، والتي قد تتجلى أكثر في مضمار الكتابة، الذي حوله وحيد إلى سلاح في مواجهة الموت عندما أدرك اقتراب فنائه، تاركا لفعل الكتابة الاستمرارية في تمثيل وجوده، وبهذا حاول أن يبدل جسده الوجودي المادي بجسد الكتابة، الذي ينبعث من رماد الموت كزهور فتية تبهرنا بجمالها، وناشرة عبقها في كل الأرجاء، فهي حرة تعانق من تريد وتهجر من سئمت من وجوده، فالكتابة هي امتداد للروح وللذات، فقد يفنا الجسد، ولكن الفكرة تبقى بفعل مشعل الكتابة كدليل على قوتها، ووجود حضن مليء بالحب.
من امتلك سحر الكلمات، ومداعبة خصلات الروح من أجل البوح عن أزمة الذات، ضمن حياة متعددة، لا يحدها زمان ولا مكان. فكان الشعر الذي ينثره وحيد في ملكات الأنفس، وتطلعات الحلم، وفي مواجهة فظاعة العالم، بمثابة هدف في مواجهة الموت وحضوره عبر ندى الذكريات، هذا ما نستخلصه من خلال قوله:
“تريث قليلا أيها الموت.. إني أكتب”[7]
وأن آخر قصيدة التي كتبها وحيد قبل رحيله لخير دليل على أنه أراد أن يضمن لنفسه الخلود بالكلمات، كلما نُطق حرف من حروف قصائده، أو عن طريق سراديب الذكريات:
“سيدتي
أعفيك الحداد يوم رحيلي
يوم لا أجيئك إلا في انفلات شكل الذكريات
كوني سعيدة
كما في ما مضى من مساءاتنا الجميلة
اقرئي مرة كتبي واصرخي”،[8].
ختاما:
تغدو الكتابة فعل إنساني مشترك بين المرأة والرجل، فهي نبراس الذات، وامتداد لوجودها الفعلي في الواقع، أو حضورها عبر سيناريوهات الذكريات، ضامنة الخلود الحقيقي للذات، فالكتابة هي البديل للأزمة النفسية والوجودية للحياة البشرية، أي كدواء لثغراتها، ومفتاح الخلاص لأزمة وجودها، وبالتالي جعلت أسماء من الكتابة هدفا من أجل أن تحيا الحياة مع من تريد وبكل حرية، عبر استرجاعها لذكرياتها مع وحيد، هذا الأخير الذي كان يبحث عن الحياة في كل مكان وزمان، في الضوء وفي العتمة، وقد جعل من الكتابة تأشيرة عبور من الموت إلى الحياة.
الهوامش:
فاتحة مرشيد، “لحظات لا غير”، المركز الثقافي العربي، الطبعة الثانية 2010، ص 55.
٢. المرجع نفسه، ص 83.
٣. عبد الرحمن التمارة، “دراسات في السرد الإماراتي”، إحدى قراءته في رواية “آخر نساء لنجة” للولوه أحمد المنصوري، ص 20.
٤. فاتحة مرشيد، “لحظات لا غير”، ص 104.
٥. المرجع نفسه، ص 15.
٦. المرجع نفسه، ص 42.
٧. المرجع نفسه، 160.
٨. المرجع نفسه، 161.