التشكيلية أنّي كوركيديجيان تسافر بشخوصها الغرائبية إلى البحرين تعبّر عن المحظور في المجتمعات العربية دون قيد أو شرط

النشرة الدولية –

العرب – ميموزا العراوي –

“نفوس منفردة” هو معرض فني ذو شخوص غرائبية مقتبسة من الواقع المعيش، لكنها شخوص تكسر السائد والمألوف وتخوض في كل المحظورات التي يخجل العامة من التطرق إليها، في حين تلتزم الفنانة التشكيلية اللبنانية أنيّ كوركيديجيان بكشفها والتعبير عنها عبر لوحاتها المتمردة.

قدم فضاء “البارح للفنون” الكائن في البحرين والداعم لحركة التشكيل العربي المعاصر معرضا فرديا للفنانة التشكيلية اللبنانية من أصل سوري أنّي كوركيديجيان بعنوان “نفوس منفردة”، معرضا يضم لوحات بأحجام مختلفة ولا يخرج من منطق عالمها الخصب وغزير الصور والإحالات النفسية، الفلسفية والاجتماعية.

“نفوس منفردة”، الذي ينتهي اليوم، هو عنوان لمعرض الفنانة التشكيلية اللبنانية أنّي كوركيديجيان المولودة سنة 1972، واللائق من دون أي شك بشخوصها الغرائبية التي واظبت على تقديمها أمام زوار معارضها الفردية. وحين نقول غرائبية فإننا حتما لا نقصد أن شخوص لوحاتها تبدو وكأنها قادمة من كوكب آخر، بل هي من صلب الواقع الذي لشدة قسوته وتعقيده تشكّل بصريا في لوحاتها.

لوحات تؤكد أن أنّي من أشرس الفنانين وأكثرهم قدرة على عجن الموت والحياة في صبّة واحدة

كي تتشكل تلك الشخوص على النحو الذي ظهرت عليه كان على الفنانة أن تتحلى بشجاعة مزدوجة؛ أولا من ناحية المواضيع التي تطرقت إليها منذ أن بدأت بالعرض، وهي مواضيع لازالت في مجتمعاتنا العربية تعتبر “مُحرجة” إذ تتعلق بالجنس والعنف تجاه الذات والآخر بشكل مباشر.

وثانيا من ناحية درجة الصفاء التي تبنتها الفنانة برغبتها في التعبير دون قيد أو شرط عن كل ما يجول في خاطرها. وهي التي قالت يوما حول تلك الأعمال “كل شيء نقي عندما أرسم.  كل ما عندي من تمردات، كل شيء مسموح به وكل شيء في وئام”.

ولعل صالة “آرت لاب” البيروتية، التي أقفلت نهائيا بعد انفجار مرفأ بيروت في أغسطس عام 2019، قد ساهمت في إطلاق شهرتها وتميزها على الساحة الفنية. فمن المعروف عن تلك الصالة أنها، وكما أشار معنى اسمها “مختبر الفن”، لم تتوان عن إقامة معارض فنية ذات مواضيع شائكة، وقد تعرضت لأكثر من حالة إقفال بسبب ما قدمته.

وتعرض الفنانة في صالة ”البارح للفنون” البحرينية أعمالا جديدة لها بمادة الأكريليك والحبر أنجزت معظمها في فترة الحجر الصحي، وهي أعمال لم تخرج عن أسلوبها الفنيّ الخاص الذي عُرفت به ولا عن مواضيعها الحميمية والمُتشعبة، غير أن ما عرضته في هذا الفضاء الفني هو أقل جرأة وفظاظة مما قدمته في معارضها السابقة وربما قد انتقت الفنانة مجموعتها تلك من أعمالها الجديدة على أساس أنها أقل صدامية بغية عرضها خارج لبنان.

وأطلقت أنّي على معرضها عنوانا هو في حد ذاته يشير إلى نظرتها لمفهوم “الوحدة”. فوحدة الشخوص الحاضرة في لوحاتها، إن كانت فرادى كما في معرضها هذا أو جماعة كما في أعمال لها سابقة، هي وحدة غير مرتبطة بالسلبية وإن كانت كئيبة، بل تتسم بواقعية الحال ومتصلة بطبيعة العيش الإنساني الذي يختبره بكليته كل إنسان لم يهرب من فكرة الوحدة، بل رأى فيها قدرا يجب أن يعتاد عليه ويروضه لأنه حقيقة من صلب يومياته مهما بلغت درجة اختلاطه بالبشر وانغماسه في حياة اجتماعية صاخبة.

هذه الوحدة “المُجفلة” من دون شك لازمتها (كما جرت العادة) غرائبية مُنفّرة مردّها اتخاذ أنّي كوركيديجيان في لوحاتها دروبا موحلة ومؤدية إلى عوالم البشر الباطنية.

وفي حين اختارت فئة من الفنانين من جيلها تجاهل تصدعاتها الداخلية واختارت فئة أخرى التعبير عنها بلغة مباشرة أو بشاعرية مفرطة، اختارت أنّي الفنانة التي عايشت الحرب اللبنانية بكل جنونها وعبثيتها أن تسير في تلك الدروب الموحلة المذكورة آنفا دون حذر أو شك كمن يسير متحديا ذاته في غابة مجهولة (لا سبيل إلى تفاديها) وعميقة تسكنها الوحوش في ليلة مقمرة وشديدة البرودة.

شخوص غريبة غرابة الحياة اليومية
شخوص غريبة غرابة الحياة اليومية

خفّت وتيرة “الإيروتيكية” الجريئة والشاذة حتى حدود المرضية في لوحات أنّي المعروضة في صالة “البارح للفنون” وسكنت النزعة الاستعراضية “التشيئية” إذا صحّ التعبير لجسد المرأة من وجهة نظر ذكورية ليحل بدلا عنها تظهير الأزمات الوجودية التي تطال الإنسان بشكل عام.

وأظهرت الفنانة تلك الأزمات على أنها ليست عارضة بل من صميم العيش العادي وذلك من خلال منحيين: الأول رمزي (وهو ما لا يطيقه نص الفنانة المعهود المعتمد على الفجاجة)، وذلك عبر اللوحات الصغيرة التي رسمت فيها الفنانة أيادي منهمكة بحركات مُعبرة وغير اعتيادية، والثاني عبّر عن حضور شخوصها “الشهيرة”، وهي في حالة تحاور أو تقاتل عشوائي تارة ومشاكس تارة أخرى.

وحضرت لوحة تعبر عن الأمومة -وكانت بالطبع مشبوهة كما هو حال معظم لوحات الفنانة السابقة والحاضرة والتي تحضّ على التفكير- أمومة كستها زرقة غير باردة يحار فيها المرء من هي المقصود بها الأم ومن هو المفترض أن يكون الابن، في حين ذكّرت هذه المُشاهد بالمرحلة الزرقاء عند الفنان بابلو بيكاسو من ناحية عذوبتها.

وبرز في أكثر من لوحة قط أبيض بدا وكأنه مصعوق بتيار كهربائي متوسط وذلك سواء إن سكن هادئا إلى جانب أحد الشخوص على درج طويل أو تمدد مُتشنجا على وسادة يريد أن يبدو عليها مُرتاحا ولا يستطيع إقناع المُشاهد بذلك البتة.

وجدير بالذكر أن أعمال الفنانة بصفة عامة تبدو وكأنها وجدت شرارة انطلاقتها من معرض سابق لها وهو “قداس الموتى”: سرور، لا بل هو جنون يكاد ينفجر وحزن لا ريب أنه مع وقف التنفيذ السريع.

هذه الأعمال الفنية تؤكد أن هذه الفنانة هي من أشرس الفنانين وأكثرهم قدرة على عجن الموت والحياة في صبّة واحدة.

ويذكر أن الفنانة أنّي كوركيديجيان حاملة لإجازة في علم النفس من الجامعة اللبنانية، إلى جانب دبلوم دراسات عليا في الفنون التشكيلية وماجستير في إدارة الأعمال، ولها معارض فردية منها “حماقات” (2008)، و”الوليمة الكبرى” (2009)، و”عرض امرأة واحدة” (2013)، و”الرسم في مياه عكرة”.

 

Back to top button