السياسة خيارات!

النشرة الدولية –

سمة الأزمات العربية السياسية العميقة حولنا، هي «التردد»؛ كبُرَت تلك الأزمة وتضخمت أو صغُرَت، فالتردد هو ما يمكن أن نلاحظه في معظم -إن لم يكن كل- الأزمات التي يغرق العرب اليوم في مياهها الصاخبة. والتردد في الاختيار السياسي ناتج عن غياب الإرادة السياسية من جهة، وفقدان المشروع الوطني الحديث من جهة أخرى.

الأمثلة كثيرة، من بينها الأزمة التونسية، فقد استمر وضع تونس السياسي منذ ما عُرف بـ«ثورة الياسمين»، والتي وُصفت بأنها «سريعة وناعمة»، في التدهور من سيئ إلى أسوأ، حتى انتهينا في مطلع عام 2022 إلى ما عليه تونس من أزمة خشنة بعيدة عن النعومة.

بعد 10 سنوات من التجربة والخطأ، بدا أن الرئيس قيس سعيد يريد القطع مع الماضي في 25 يوليو (تموز) 2021، ولكن ما لبث أن وقع الخطأ نفسه (التردد) في تقديم مشروع فيه رؤية ومسنود بإرادة، حتى تراكمت القضايا السياسية والاقتصادية والاجتماعية، وانفض كثير ممن ناصر «حركة التصحيح». وما لبثت تونس نتيجة التردد أن غاصت من جديد في أزمات أكثر مما عانت في السابق، وقد يقود ذلك إلى مزالق سياسية أكبر وأخطر مما سبق.

وفي السودان، مع استقالة عبد الله حمدوك، نرى فعل التردد وفقدان الرؤية في الخيارات واضحاً، فثورة شعبية تطيح بحكم «آيديولوجي» معادٍ للعالم وحاضن للإرهاب الدولي، أسقط السودان في أتون التقسيم والعزلة الدولية وتراكم الديون، كانت تحتاج إلى قرارات «غير مترددة» في السير إلى الأمام، وما إن خطت بعض الخطوات حتى عادت من جديد إلى التردد، فكان «الانقلاب الأصغر»، تلاه تراجع نسبي عن الانقلاب، ثم عادت الأمور إلى نقطة الصفر من جديد، والتي عطلت الاقتصاد، وقد تقود إلى تفكيك السودان.

أمام هذه المسيرة والأخطاء في قراءة التحولات المجتمعية، فإن الأكثر توقعاً هو الاقضاض على الحكم، تحت ذريعة إنقاذ البلد! وهكذا يدخل السودان في دوامة بسبب التردد في الاختيار السياسي المساير للعصر.

ليس لمسيرات السودان التي تزحم شوارعه اليوم رأس؛ بل هي متعددة الرؤوس، وكلما مر الزمن ظهرت رؤوس جديدة ومختلفة فيما بينها. وقد يقود هذا التردد إلى أسوأ الاحتمالات، وهو التفكك من الداخل.

التردد صفة أخرى نشهدها في العراق، فرغم المسيرة الانتخابية الناجحة نسبياً، فإن حسم وحدة السلاح ما زال في مرحلة التردد. بقاء السلاح خارج منظومة الدولة صفة ناجعة لتفكك الدولة وفشلها. وهذا التردد نراه في تحديد صفة الدولة المرتجاة؛ هل هي دولة وطنية حديثة ومستقلة، أم دولة يلعب فيها رجال الدين –إن صحت التسمية– الدور الأساس، وتنحو إلى استثمار «الخرافات التاريخية» لتضليل العامة، وتكون في الوقت نفسه ساحة لنفوذ الغير، ومكاناً للمزايدة على قاعدة ثيوقراطية.

عدم الحسم مدخل للاضطراب؛ وخصوصاً في موضوعين: السلاح، والتبعية للخارج الإيراني، والذي يتشكل بصور عديدة، آخرها تأبين قتل واحد أجنبي، وتجاهل آلاف القتلى من العراقيين.

المثال المصاب بأكثر أمراض التردد السياسي عواراً، هو لبنان، فرغم المعرفة التامة لأي مواطن لبناني، وليس القائد السياسي فقط، بأن «حزب الله» المسلح، هو ذراع لدولة أجنبية يحارب باسمها في الداخل والخارج، وهو بهذا التصنيف عميل لدولة أجنبية، وحامل للإرهاب، ولا تتردد قيادته في إعلان ذلك، وليست له علاقة بالمصالح اللبنانية؛ بل يزدريها ما دام يحصل على التمويل من الخارج، ليعوِّم محازبيه، ويرسل أبناءهم للقتال في ساحات عديدة، ويقوم جزئياً بتمويل نفسه عن طريق تهريب المخدرات للجوار، ويسقط الدولة اللبنانية في الخراب والعتمة؛ رغم كل ذلك الوضوح، فإن تردد القوى السياسية ذات المصلحة في استنهاض لبنان، هو السمة الأوضح في سلوكها المهادن والمتردد، وبحياء شديد نسمع بعض التصريحات المتناقضة من سياسيين لبنانيين، تقصُر عن تسمية الأمور باسمها، وفيها من التردد أكثر بكثير من الإقدام والشجاعة السياسية، لإنقاذ ما بقي من لبنان من السقوط الحر إلى قاع الفوضى.

الأكثر وضوحاً وألماً في التردد المرضي، هو في الساحة الفلسطينية. يعجز المتابع عن حصر إعلانات الفصائل والحركات حول نيتها الأكيدة، ولكن «اللفظية» في توحيد الصف، ولكن هذا الصف لا يتوحَّد أبداً على أرض الواقع، فاتخاذ القرار المناسب في الوقت المناسب بناءً على معطيات منهجية، غائب تماماً في دوائر صنع القرار الفلسطيني، والاعتماد على الأهواء والمزايدات والمناكفة، وحتى «التخوين»، هو السائد، وأيضاً في بعضه الارتهان لقوى إقليمية يعرف القاصي والداني أن لها أجندتها، وآخر همها المصلحة الوطنية الفلسطينية، أو الشعور بمعاناة شعبها.

تلك عينة لشرح الأزمة التي نحن بصددها في بعض أوطاننا، وهي عينة ظاهرة، إلا أن صفة التردد في اتخاذ القرار السياسي ملازمة لعديد من الأنظمة العربية الأخرى، والسبب أنها تفتقر بشدة إلى المكون المعرفي في اتخاذ القرار، فكثير من القرارات التي لها علاقة بحياة وموت المواطن (والوطن) تُتَّخذ بشكل عشوائي. وعلى حد قول صديق مُجرِّب، فإن كثيراً من القرارات في الدولة الواحدة تُتخذ على قاعدة أن اليد اليمنى لا تعرف ما تفعل اليد اليسرى، وكلتاهما غير مرتبطة بالمخ!

لدينا في هذه المنطقة من العالم شح واضح في مراكز التفكير على مستوى الدولة، وما يوجد منها -وهو أقلية- «ديكور» لا يُلتفت إلى توصياته إن وُجدت، أو أن تُطَوَّع تلك الدراسات لأهواء متخذ القرار؛ بدلاً من ترشيد قراره.

من هنا، فإن اليد المرتجفة لا تحسن التصويب، وقد أُهدر من الوقت والمال الكثير في عدد من بلدان العرب، بسبب عدم وجود مشروع لدولة حديثة، ومنهجية معرفية لاتخاذ القرار، واتخاذه بناء على الهوى، أو حتى انسجاماً مع «رأي عام غير مستنير»؛ تكسباً لشعوبية نهايتها الإضرار الجسيم بالمصلحة العامة.

آخر الكلام:

تجاهل ثلاثة يؤدي إلى ثلاثة: تجاهل الزمن يؤدي إلى البقاء في المكان، وتجاهل المشاركة يؤدي إلى الشمولية، وتجاهل العلم الحديث يؤدي إلى التراجع الحضاري!

 

Back to top button