المناخ في السياسة… هل يهتم اليسار بالبيئة أكثر من اليمين؟

الكوارث الطبيعية عقاب الإنسان عما يقترفه تجاه كوكب الأرض

النشرة الدولية –

اندبندنت عربية –

في 28 يوليو (تموز) الماضي، حلّ “يوم تجاوز موارد الأرض”، وأصبح هذا اليوم يعود أبكر منذ عام 1970. ودق هذا الموعد ناقوس الخطر منبهاً إلى أن البشرية قد استنفدت كافة الموارد الطبيعية التي يتيحها كوكب الأرض على مدى عام، في مؤشر إلى ارتفاع “الدين البيئي” تجاه الكوكب. واعتبرت منظمات غير حكومية بأن “يوم التجاوز” هو مؤشر ضروري لقياس الأثر البيئي للأنشطة البشرية، لكنه لا يزال قليل الاستخدام في مختلف نماذج الحوكمة العالمية.

سوسن مهنا

ويتقدم الحديث عالمياً عن ضرورة احترام وخضوع الإنسان للطبيعة في زمن الكوارث الطبيعية والأوبئة والاعتراف بكونه ضيفاً ثقيلاً على هذا العالم، وأن تلك الكوارث والأوبئة وما يترتب عليها من خسائر في الأرواح والأموال هي تدخُّل من قبل الطبيعة الأم من أجل إعادة التوازن للعالم. هذه الطبيعة التي باتت تتعارض مع ثقافة الإنسان وتتكون بنفسها، لم تعد موجودة. فالبيئة والأرض أصبحتا تتأثران بالإنسان بشكل كبير، حيث يتحدث اليوم العلماء بشكل كبير عن ما يسمى عصر “الأنثروبوسين” أو العصر الجيولوجي البشري، وذلك بسبب مشاركة البشر لبقية القوى الطبيعية الأخرى في مسؤوليتها عن الحالة الجيولوجية للأرض.

ارتفاع حدة الكوارث الطبيعية

وتتخوف اتفاقية الأمم المتحدة الإطارية بشأن تغير المناخ مما يواجه كوكب الأرض حالياً، وأبرز التحديات أمام العالم هو التلوث وما ينتح عنه من تغيرات مناخية. ومن المشكلات البيئية الأخرى الأمطار الحمضية وتلوث الهواء، إضافة إلى أضرار الامتداد العمراني، ومشكلة التخلص من النفايات واستنفاد طبقة الأوزون وتلوث المياه وغيرها الكثير التي تؤثر على الإنسان والحيوان. وعلى مدى العقود القليلة الماضية، ارتفع استغلال الكوكب وتدهور البيئة بمعدل ينذر بالخطر، ولهذا ازدادت حدة الكوارث الطبيعية، وتمظهرت بالفيضانات المفاجئة وأمواج تسونامي والأعاصير.

ويعد تغير المناخ من الاهتمامات البيئية الأساسية مؤخراً، ذلك إن للتغير البيئي تأثيرات مدمرة مختلفة تشمل، على سبيل المثال لا الحصر، ذوبان الجليد القطبي والتغير في المواسم والأمراض الجديدة والتغير في حالة المناخ العام. إضافة إلى أن استخدام الوقود الأحفوري يؤدي إلى تفريغ الغازات المسببة للاحتباس الحراري، والتي تسبب تغيراً بيئياً.

ومع ذلك، فإن بعض الدول تبذل جهوداً للانتقال إلى مصادر الطاقة المتجددة. كما أن إزالة الغابات التي هي مصدر الأوكسجين الرئيسي على سطح الكوكب، وتساعد أيضاً في إدارة درجة الحرارة وهطول الأمطار، باتت تغطي 30 في المئة من المساحة الكلية، إضافة إلى أن المناطق الحرجية تتقلص بشكل منتظم، لأن الناس يبحثون عن المنازل والمواد الغذائية.

وهناك من يعرف “الإيكولوجيا السياسية” وهي فلسفة علم البيئة، وترى البشرية بوصفها واحدة مع الطبيعة، وكجزء لا يتجزأ من سيرورة التطور التي تمضي بالكون قدماً من المادة الجامدة إلى الحياة، على أنها مجال يتم فيه دمج اهتمامات الإيكولوجيا والاقتصاد السياسي بتعريفه العام والشامل، وهذا يشمل الجدل بين المجتمع والموارد، وكذلك داخل الطبقات والمجموعات ضمن المجتمع نفسه. هناك أيضاً مفهوم “سياسة الإيكولوجيا” “Ecology Of Politics “بمعنى الفاعلية السياسية لصالح البيئة الخضراء العميقة ونقدها للحداثة والرأسمالية، وجاء ذلك في تعريف بول واتكينسون، رئيس الهيئة الفرعية للمشورة العلمية والتكنولوجية لإتفاقية الأمم المتحدة الإطارية.

من ناحية أخرى تقول بولا كباييرو المديرة السابقة للبيئة والموارد الطبيعية في البنك الدولي، إنه في الوقت الذي ينتقل فيه الناس إلى المدن وتنحو البلدان نحو التصنيع، نرى أربعة أجيال جديدة تعدم الفهم الأساسي للصلات بين الأنظمة الإيكولوجية السليمة والطعام والماء التي يعتمدون عليها من أجل البقاء على قيد الحياة. (اسأل طفلاً من أين تأتي الدجاجة وسيشير على الأرجح إلى ثلاجة السوبر ماركت).

كما أن الحياة البرية، من الأفيال إلى نحل التلقيح المتواضع، تواجه خطر التعامل معها باعتبارها مخلوقات ترفيهية يمكن الاستغناء عنها ولا ترى إلا في حدائق الحيوان أو الأفلام الوثائقية، بدلاً من أن تعامل كشركاء وجيران أساسيين في المنظومة الإيكولوجية. ويدخل المحاسبون كأبطال غير متوقعين في معركة الحفاظ على الطبيعة، فقبل عشر سنوات، كان القليل من البشر يفهمون فكرة حساب رأس المال الطبيعي. واليوم، ثمة طلب متنام على ذلك النوع من العمل الذي تؤديه نظم حساب الثروة وتقييم الأنظمة الإيكولوجية، على سبيل المثال: يطلب المزيد من البلدان المساعدة في تقييم حساباتها الطبيعية (ما هي كميات المياه لدينا؟ ما الذي يحدث لمخزونات الكربون بالغابات؟). ويهتم المزيد من البلدان والشركات الخاصة بالذهاب إلى ما وراء إجمالي الناتج المحلي وصافي الأرباح المالية، لفهم الضمان طويل الأجل لنموهم وسلاسل التوريد الخاصة بهم.

الثورة الصناعية وأثرها على البيئة

يشير مصطلح السياسة البيئية إلى أي مسار من الإجراءات التي يتم اتخاذها، أو التي لم تُتخذ عمداً، لإدارة الأنشطة البيئية بهدف منع الآثار الضارة على الطبيعة والموارد الطبيعية، أو تقليلها أو تخفيفها، وضمان عدم تسبب التغيرات التي هي من صنع الإنسان في إحداث آثار ضارة عليه.

يرى إريك هوبزباوم في كتابه “عصر الثورة” 1962، أن الثورة الصناعية أكثر ثورة جذرية في التاريخ الإنساني، إذ قلبت حياة الإنسان في كل مكان امتدت إليه، فالنظم الاجتماعية والسياسية والأخلاقية للمجتمع الزراعي الرعوي الذي عاش بداخله الإنسان القديم والوسيط لقرون تبدلت بشكل جذري، واقتُلِعَ الإنسان من عالمه الأخضر الهادئ الرتيب وأُلقِيَ به في مدن صناعية رمادية باهتة. وخلق انتشار هذا النمط من الحياة الصناعية الحضرية الحديثة شعوراً بالحنين إلى الحياة الريفية، التي أُضفِي عليها طابع مثالي، كلما ابتعد عنها الإنسان وانهمك أكثر في المجتمع الصناعي الجديد، كان هذا الحنين على أشده في البلدان التي عرفت أكثر عمليات التصنيع سرعة وعنفاً، وأيضاً لدى الفئات التي تضرّرت من عمليات تحطيم العالم القديم لصالح العالم الصناعي الحديث.

وظهر جذر إيكولوجي/بيئي بين اليسار السياسي، ففي الوقت الذي استفادت فيه البرجوازيات الأوروبية الكبيرة من الثورة الصناعية، لم تنل الفئات الأقل حظاً إلا الفتات، هنا ظهرت النسخة الأولى من الحركات الإشتراكية، وهي الحركات الإشتراكية المثالية (ما قبل الإشتراكية العلمية الماركسية)، دعت تلك الحركات لتفكيك الصناعة والعودة إلى تضامن ومشاعية المجتمع الزراعي الرعوي التقليدي والعيش من خير الطبيعة البرية، وحاولت تلك الفئات كذلك تكوين مجتمعات صغيرة تعيش في حالة الطبيعة المسالمة في شكل قرى صغيرة تأكل من الزراعة والرعي وتعادي المجتمعات الصناعية الرأسمالية، لاحقاً ستستلهم الحركات اليسارية من تلك التجارب والمشاعر لتُشكِّل أيديولوجيا طوباوية شيوعية تحترم الطبيعة وتقضي على اغتراب الإنسان الذي أبعدته الصناعة عن جذوره في الطبيعة، بحسب الكاتب.

توجه أعمى نحو النمو الكمي غير المحدود

تعتبر منظمة “الأممية الرابعة” وهي منظمة اشتراكية ثورية دولية تتكون من أتباع ليون تروتسكي، المعروفين أيضاً باسم “التروتسكيين”، والتي يتمثل هدفها المعلن في الإطاحة بالرأسمالية العالمية وتأسيس الأممية البروليتارية عبر الثورة العالمية، ومن وجهة نظر اشتراكية بيئية، أن الخطر يتفاقم يوماً بعد يوم، لكن يمكن تجنب الكارثة، أو بالأقل حصرها أو احتواءها. وفي الواقع، ليس الوجود البشري عامة السبب المحدد لتهديد البيئة، بل السبب نمط الإنتاج وإعادة الإنتاج الاجتماعي لهذا الوجود، المتضمن أيضاً نمطه في التوزيع والاستهلاك، علاوة عن نمط قيم ثقافية. إن النمط ساري المفعول منذ قرنين تقريباً، الرأسمالية، غير قابل للاستدامة لأن محركه، أي التنافس من أجل الربح، يستتبع توجهاً أعمى نحو النمو الكمي غير المحدود، على نحو يتنافى مع تدفقات ودورات المادة والطاقة في منظومة الأرض.

وفي أثناء القرن العشرين، كانت البلدان المسماة “اشتراكية قائمة فعلاً” عاجزة عن تقديم بديل عن التدمير الإنتاجوي للبيئة، الذي أسهمت فيه بشكل كبير. وفي بداية القرن الواحد والعشرين هذه، تواجه البشرية ضرورة لا عهد لها بها متمثلة في التحكم بتطورها في جميع المجالات من أجل ملاءمتها للحدود وللصحة الجيدة للبيئة التي تمكنت، هذه البشرية، من التطور في حضنها. لم يعد بوسع أي مشروع سياسي تجاهل استنتاج الدراسات العلمية حول “التغير الشامل” هذا، بل بالعكس، يجب الحكم على كل مشروع بناء في المقام الأول على تدابير مواجهة المخاطر، وعلى الأجوبة المنظومية التي يحملها، ومدى مطابقة تلك الأجوبة للمتطلبات الأساسية للكرامة الإنسانية، وتمفصلها مع برنامجه في باقي المجالات، خاصة في المجالين الاجتماعي والاقتصادي. إن علاقة أخرى مغايرة تماماً بين البشرية والبيئة ضرورة ملحة.

لن تنتج هذه العلاقة الجديدة، القائمة على “الاعتناء” بالبشر وبالبيئة، عن مجرد تغييرات فردية في التصرفات. إنها تتطلب تغييراً هيكلياً للعلاقة بين البشر، أي الاستئصال التام والشامل للرأسمالية بوصفها نمط إنتاج للوجود الاجتماعي. وفي الواقع، يشكل هذا الاستئصال الشرط اللازم لتدبير عقلاني ومقتصد وحذر لمبادلات المواد بين البشرية وباقي الطبيعة. ومن شأن العلوم والتقنيات تسهيل هذا التدبير، لكن بشرط أن لا يُخضع تطورها لما يفرضه الربح الرأسمالي.

وتضيف الدراسة إن قرار قمة (كوب21) بتحديد عتبة خطورة الاحترار في 1.5 درجة مئوية نجاح ونقطة ارتكاز للحركة. بيد أن الرأسمالية الخضراء واتفاقية باريس لا تتيحان تفادي تدمير البيئة بشكل عام وخطر إنكار التغيرات المناخية بشكل خاص. يتطلب نضال الدفاع عن الكوكب وضد احتراره وضد تبدل المناخ أوسع تحالف ممكن لا يخرط قوى الحركات الأهلية والحركة العمالية وحسب، بل حتى الحركات الإجتماعية التي تعززت وتجذرت في السنوات الأخيرة وقامت بدور متنام، لا سيما في التعبئة من أجل المناخ. ولا يمكن أن يأتي البديل سوى من سياسة عالمية تلبي الحاجات الإنسانية الفعلية، أي الحاجات التي لا تحدد بواسطة السوق، بل عبر تشاور ديمقراطي، تمكن السكان من إعادة التحكم بمصيرهم بالتحرر من استلاب السوق وتحطيم المنطق الموضوعي للتراكم الإنتاجوي المميز للرأسمال.

زر الذهاب إلى الأعلى