بحالة شبه انهيار… نحو 5200 فرّوا من الجيش والأمن اللبناني لتردي اوضاعهم الاقتصادية

النشرة الدولية –

المدن –  عزة الحاج حسن –

تتعرض المؤسسات العسكرية والأمنية في لبنان لحالة أشبه بانهيار بنيوي مرده إلى الازمة المعيشية التي تضرب أفرادها، والناجمة عن تردي قيمة رواتبهم الشرائية بشكل هائل. وإذا كانت حالات الفرار من الخدمة العسكرية من قوى الأمن الداخلي وباقي المؤسسات الأمنية بالمئات، فإن أعداد الفارين من الجيش اللبناني بالآلآف ومرشحة للزيادة مع تردي الأوضاع أكثر فأكثر.

وتتزايد حالات فرار العسكريين والأمنيين من مراكز عملهم، ليس لسبب سوى الهروب مما يصفونه بالعمل “السخرة” ومن حالة الحجر المفروضة عليهم. فلا رواتب تؤمن معيشتهم ولا موافقات تُمنح على طلبات تسريح ولا اذونات سفر خارج البلد ولا قدرة على التعايش مع الواقع الجديد في المؤسسات العسكرية والأمنية. وليس أمراً عابراً أن تتراجع قيمة متوسط راتب الجندي في الجيش اللبناني من نحو 800 دولار عام 2019 إلى نحو 40 دولاراً فقط اليوم. ومتوسط الراتب لم يتغير، وهو يقارب مليون و200 ألف ليرة، إنما هو سعر صرف الدولار الذي تغيّر من 1500 ليرة إلى نحو 30 ألف ليرة حالياً، فتراجعت قيمة رواتب العسكر والقوى الأمنية بما يقارب 95 في المئة.

خطر فقدان الأمن

وليست حال مئات الآلاف من الموظفين في لبنان بالقطاعين العام والخاص بأفضل حال من أوضاع العسكر والقوى الأمنية. الجميع بات يتقاضى فتاتاً لقاء عمل لا يؤمن معيشة أيام قليلة. لكن تبقى للقوى الأمنية والعسكرية خصوصية لا يمكن التغاضي عنها. “فالأمن لا يستتب بالقرارات أو الشعارات، إنما بجهود كوادر المؤسسة العسكرية والأجهزة الأمنية وتفرّغهم. وهؤلاء يواجهون اليوم خطر فقدان القدرة على الاستمرار في تلبية الواجب تجاه الوطن”. وهذا الموقف لم يصدر عن عنصر في الجيش اللبناني، إنما عن ضابط يفوق راتبه راتب الجندي بأضعاف، غير أن دخله في أحسن الأحوال لا يبلغ، مع بعض الامتيازات التي يُخصَّص بها الضباط، 200 دولار شهرياً. وهذا مبلغ يكاد لا يغطي فاتورة الكهرباء ومعيشة أسبوع فقط لعائلة الضابط.

وهو يكشف في حديث إلى “المدن” عن أكثر من 25 عملية فرار بين أفراد وضباط حصلت خلال الاسبوع الفائت في قطعتين عسكريتين فقط، في شمال لبنان، لافتاً إلى بلوغ حالات الفرار من الخدمة العسكرية أرقاماً قياسية في المرحلة الراهنة. وينقل الضابط مخاوف قياداته من استمرار تدهور الوضع المعيشي للعسكر، لما لذلك من مخاطر على وتيرة عملهم ووفائهم للمؤسسة. وهذا ما يمكن أن يزعزع الأمن ويعرض تماسك المؤسسة العسكرية للخطر الحقيقي.

تساهل وتعليق عقوبات

وتحاول قيادات الأجهزة الأمنية عبر ضباطها التعامل مع العناصر بتساهل وتفهّم بالغين، حتى مع حالات الفرار والتمرد، يتم التعامل بمرونة وبتخفيف العقوبات مهما كانت المخالفات في حال كانت ناتجة عن تأزم الوضع المعيشي. كأن يتم التساهل مع أحد عناصر الجيش، حين التحق بقطعته في منطقة البقاع بعد انقطاع عن الخدمة دام خمسة أشهر، ولم ينكر خلال التحقيق معه تعمّده التخلّف عن الخدمة العسكرية بسبب عجزه عن تأمين تكلفة انتقاله إلى مقر خدمته.

هذه المخالفات كانت تستدعي في وقت سابق سجن الجندي الفار من خدمته من شهر إلى سنة كاملة، استناداً إلى المادة 90 من قانون العقوبات العسكري. أما اليوم حسب الضابط، فالعقوبات لا تُطبق بناء على توصيات باستيعاب حاجات ومعاناة العسكر. ويقول: “نعمل جهدنا لتحمل الأزمة الحالية وتمرير هذه الفترة بأقل أضرار ممكنة على المؤسسة العسكرية. ولعل تساهلنا مع العسكر لجهة أيام الخدمة وتخفيف الضغط عليهم والتغاضي عن ممارسات غالبيتهم الساحقة لأعمال أخرى إلى جانب الخدمة العسكرية لزيادة مداخيلهم، يأتي في إطار سياسة الحفاظ على تماسك المؤسسة العسكرية وعدم انهيارها”.

عسكر بلا رواتب

وإذا كان أحد الجنود تجرأ على التخلف عن الخدمة لعجزه عن تأمين بدل انتقاله، فذلك لا يعني أن كافة العناصر الذين يواظبون على الالتزام بجدول خدمتهم يملكون كلفة انتقالهم إلى مقار عملهم وتغطية معيشتهم. فالعريف أول (م.ي.) يسكن في منطقة شبعا الجنوبية، فيما مقر خدمته العسكرية في عكار شمال لبنان. وهو يتقاضى راتباً لا يتجاوز مليون و700 ألف ليرة (نحو 56 دولاراً فقط)، فيما تبلغ تكلفة انتقاله من مكان سكنه إلى عكار أكثر من مليون و200 ألف ليرة شهرياً، باعتبار أنه يعمل 5 أيام مقابل إجازة (مأذونية) 5 أيام، وتبلغ تكلفة الانتقال 200 ألف ليرة من شبعا إلى عكار ومثلها طريق العودة.

ولا تنتهي مأساة (م.ي.) عند تكلفة النقل، على ما يقول في حديثه إلى “المدن”. فما كان “يؤمنه لي الراتب في الخدمة بت أعجز عنه اليوم، لاسيما مياه الشرب. فلا مياه للشرب تقدم في الغالبية الساحقة من مراكز الخدمة. ولطالما كان العسكر يشتري حاجته من المياه وبعض المأكولات. أما اليوم فبات الأمر بالغ الصعوبة. إذ يبلغ سعر غالون المياه نحو 15 ألف ليرة، ولا يقل سعر السندويش مهما كان نوعه عن 35 ألف ليرة”.

ونجحت محاولات عدد من قادة الألوية والأفواج في توفير بعض التكاليف على العسكر، من خلال إبرامهم اتفاقات مع أصحاب باصات نقل من مقار الخدمة إلى مناطق محددة، تشمل العدد الأكبر من العسكر في القطعة، بأسعار رمزية لا تتجاوز 15 ألف ليرة، مقابل تقديم حاجة الباصات من المازوت مجاناً من مخزون الجيش. وهذه المبادرات حلّت أزمة انتقال عشرات الجنود وربما المئات منهم، لكنها لم تطبق بعد في كافة المناطق.

وتجهد القيادات العسكرية والأمنية لتأمين بعض المساعدات للعسكر، كالمساعدات الغذائية التي تتراوح كلفتها الرمزية بين 113 ألف ليرة و130 ألف ليرة، وتحتوي على كمية مقبولة من الحبوب والمواد الغذائية التي تزيد كلفتها الحقيقية عن المبلغ المذكور بكثير، وتتضمن كمية من الرز والسكر والعدس وبعض علب الحمص والتونا وغيرها. وعلى الرغم من تخفيف هذه المساعدات بعضاً من الأعباء المعيشية على العسكر، غير أنها لا تكفي لتمكينهم من تحمل عبء الخدمة العسكرية مقابل رواتب باتتة شبه متآكلة كلياً.

وإلى حين انفراج الوضع الاقتصادي وتحسين أوضاع العسكر تستمر ممارسات القيادات العسكرية الهادفة إلى لجم انفراط عقد المؤسسة العسكرية، ومنها رفض طلبات الانقطاع المؤقت عن الخدمة والمأذونية الطويلة وطلبات التسريح من الخدمة وأذون تسوية جوازات السفر. وهذه الإجراءات وسواها جعلت من الخدمة العسكرية أشبه بحالة احتجاز قسري. وهذا ما يدفع إلى ارتفاع حالات الفرار. وحسب التقديرات بلغت حالات الفرار من قوى الأمن الداخلي نحو 250 حالة، فيما تبلغ في الجيش اللبناني نحو 5000 حالة.

زر الذهاب إلى الأعلى