لبنان يدفع ثمن “أخطاء” تصورها الجيران والملالي
بقلم: رفيق خوري

واحد من أقدم بلدان المنطقة العامرة بالحضارات ولا ذنب له في ما حدث في التاريخ الإسلامي

النشرة الدولية –

ليس أمراً عادياً أن يتحدث وزير الخارجية، ثم مستشار النمسا، مترنيخ، عن “لبنان هذا البلد الصغير الذي هو في منتهى الأهمية، ومن الحكمة أن نصونه من العنف”، ومتى؟ في القرن التاسع عشر، بعد أن كان مترنيخ مهندس “مؤتمر فيينا” عام 1815، ونظام “توازن القوى” في أوروبا في أعقاب الحروب النابوليونية. وهو لم يُولد يوم ولادة “لبنان الكبير” على يد فرنسا الانتدابية في سبتمبر (أيلول) 1920. ولا قبل ذلك بقرنين أيام الإمارة المعنية بقيادة الأمير فخر الدين الكبير، ثم أيام الإمارة الشهابية و”نظام القائمقاميتين”، و”نظام المتصرفية”، برعاية الدول السبع الكبرى في تلك الأيام، والذي انتهى في الحرب العالمية الأولى، إذ كانت هناك مدن – دول في بيبلوس وصيدا وصور، وحضارة عمرها ستة آلاف عام، لكنّ لبنان عانى ويعاني منذ إعلان “لبنان الكبير” ممارسة سواه سياسةً قائمةً على تصور ثلاثة من “الأخطاء” الكبيرة.

الأول هو تصور السوريين أن لبنان “خطأ تاريخي”، فهم يرونه جزءاً مسلوباً من سوريا. جباله في السلسلة الغربية والشرقية تحجب دمشق عن البحر. السفارة البابوية فيه كان اسمها “السفارة في سوريا”. ولم يستطع الجنرال غورو إعلان الكيان اللبناني قبل الوصول بحملته العسكرية إلى دمشق، وإسقاط دولة الملك فيصل الأول الناشئة بدعم إنجليزي بعد خيانة لندن والده الشريف حسين، والتملص من وعود إقامة الدولة العربية الواحدة بقيادته. ولم يكن سهلاً على رئيس الوزراء السوري جميل مردم بك الاعتراف باستقلال لبنان وعضويته في الجامعة العربية. ولا كان الرئيس حافظ الأسد الذي تدخل عسكرياً في لبنان تحت عنوان إنهاء الحرب، يرى لبنان وسوريا سوى “شعب واحد في دولتين”. وحين أجبرت سوريا على الانسحاب العسكري على يد القوى الدولية التي سمحت لها بالدخول قبل ثلاثين سنة، ظهر عمق التغلغل الذي مارسه النظام السوري في النسيج اللبناني، وكان أكبر بكثير من التحكم بكل مفاصل السلطة في لبنان.

الثاني هو تصور إسرائيل وبعض اللبنانيين أن لبنان “خطأ جغرافي”. لماذا؟ لأن وزارة الدفاع الفرنسية فرضت رأيها على وزارة الخارجية، ولا سيما على المسؤول دو كاي في ضم الأقضية الأربعة، بدل الاكتفاء بلبنان من “إهدن إلى جزين”، لعدم مواجهة التبدل الديموغرافي. وفي هذا الإطار، كانت مشاريع التقسيم التي يستحيل أن تحدث وأن تعيش. وهذا المشروع كان بين أهداف إسرائيل حين اجتاحت لبنان عام 1982، وأخرجت منظمة التحرير الفلسطينية منه. ولا يزال في لبنان اليوم من يفكر فيه بسبب الأزمات الضاغطة علينا والوصول إلى ما يشبه استحالة الحكم بسبب التبدل الديموغرافي ورغبة الطوائف الكبيرة والقوية في استخدام “الفيتو” ضد أي قرار لا يناسبها، كما في تعطيل الرئاسة والبرلمان ومجلس الوزراء.

والثالث هو مشروع “ولاية الفقيه” بقيادة إيران والقائم على تصور “خطأ كبير جداً” في المسار الإسلامي والعمل على “تصحيحه”. أي خطأ؟ “خطأ” ما حدث على “السقيفة” بعد رحيل النبي محمد بن عبدالله، صلى الله عليه وسلم، وهو ألا يكون الإمام علي بن أبي طالب ابن عم الرسول وزوج ابنته فاطمة الخليفة الأول بعد النبي، ثم أن تكون الولاية الدائمة لآل البيت. و”حزب الله” الذي يتحكم اليوم بلبنان ويشارك في حرب سوريا ويساعد الحوثيين في اليمن على قصف المدنيين والأعيان المدنية في السعودية هو جزء من الحرس الثوري الإيراني وهذا المشروع. فهو وُلد على يد حجة الإسلام محتشمي الذي كان سفيراً للملالي في سوريا. وقد عمل معه، وله عدد مهم من الشخصيات الإيرانية التي صار أحدها وزيراً للدفاع هناك. حتى الجنرال حسن إيرلو الذي عمل سفيراً لبلاده مع الحوثيين في صنعاء بعد أدواره في الحرس الثوري، ثم توفي أخيراً بسبب كورونا، فإنه عمل على مدى سنوات طويلة مع “حزب الله” في لبنان.

لكنّ لبنان واحد من أقدم بلدان المنطقة العامرة بالحضارات الفرعونية والفينيقية والآشورية والبابلية والأكدية والسومرية وعديد من الحضارات التي عرفتها سوريا. فلا هو “خطأ تاريخي”، ولا هو “خطأ جغرافي”، ولا ذنب له في ما حدث في التاريخ الإسلامي. والأخطار التي تهدده اليوم تهدد عملياً المشروع النموذجي للشرق الأوسط، حيث تتعدد الشعوب والإثنيات والطوائف والمذاهب: مشروع العيش المشترك ضمن المواطنة والمساواة في الحقوق والواجبات في ما سماه البابا الراحل يوحنا بولس الثاني “البلد – الرسالة”. ولا مهرب من أن ينهض من الانهيار كما في أسطورة الفينيق الذي ينهض من رماده. و”البلد – الرسالة”، كما رأى المؤرخ برنارد لويس، “عانى، لا بسبب أخطائه، بل بسبب مزاياه”.

 

 

زر الذهاب إلى الأعلى