“مش فارقة معايَ”
النشرة الدولية –
“النهار” – رنا الصّيفي
ككلّ صباح، ألتحف الهدوء، أتبرّج بالطمأنينة، وأستنشق من الإيجابية بعضها استعدادًا لرفع أثقال يومٍ مكدِّرٍ ككلّ أيام لبناننا الآن.
أنطلق في سيارتي، أشغّل الراديو، أقلّب القنوات، علّ أثير إحداها يحاكي صفو حالي. وإذا بـ”الغزالة” غير “الرايقة” على الإطلاق تثب إلى سمعي مطبّلةً مهلِّلة، فأصمّها من توّي لمجرّد أنني لا أرغب في بدء صباحي الباكر راقصة.
أثيرٌ آخر يعلو منه شجن إليسّا تناجي حبيبها، حالمةً بـ”ليلة لإلبسك الأبيض وصير ملكك والدني تشهد”! الصبح لك يا الله. ارفق بأذنيّ أرجوك! فلم تكتفِ بأن اختزلت نفسها إلى صكّ ملكية بيد فارسها المزعوم، بل إنها تصرّ على دمغ نفسها بختم ماكينة التكاثر، الضروري لاستمرار النمل البشري، بوعدها “جيب منّك إنتْ طفلك إنت متلك إنت”، وكأنّ حيوانته المنوية تبرعم من تلقاء نفسها لتزهر مولودًا على صورته ومثاله هو فقط.
دمي النسوي يغلي حدّ الفوران، فيما راحت كلمات تلك الجملة الحدباء تقفز في تلافيف دماغي من نصفه الأيمن إلى الأيسر، وبالعكس، كمثل رسوم متحرّكة رعناء صغيرة قنفذية الشعر فاغرة الفم ضاحكة عرض شدقيها تمدّ لي لسانها، تنتشل من حجراتي الفكريّة شعارات مناصرتي للمرأة وتجري بعيدًا بسرعة ضوئية، شامتة مستهزئة.
أنفضها من رأسي وأشغّل القرص السمعي المدمج. وإذا بهاتفي يطنّ. ها صديقتي تشاركني فيديو كليب جديدًا لأغنية “ما تعتذر”. أفتحه لدى التوقّف عند الإشارة الحمراء. بضع دقائق كانت كافية ليعلن صباحي رسميًا عن رمي حذائه في وجهي. نانسي، المستاءة من زوجها المدمن، الذي غفل عن عيد ميلاد ابنهما، تلملم بسالتها أمام تقريعه لها، وتكشيره عن ذكوريّته مزمجرًا “اطّلعي فيي وقت إحكي معك!”. وكأن غيّه لا يكفي محاولًا إقناعها بشهامةٍ مفقودة يستجديها من صمتها على سؤاله “بشو غلطت معك؟”، يتقنّع الندم تارة ويستأسد تارة، فتوضّب أمتعتها على عجل بعد لحظات من التأمّل إلى جانب ذاك المتلاشي على السرير، شاخرًا هامدًا. وبعد لمسة حب منها ليده- رأى المخرج أنّها ستضفي على المشهد حبة عطف لا لزوم لها- نراها تلتقط ابنها من سريره، تهرع إلى السيارة، تودعه فيها، وتجهش في نوبة بكاءً، ملتاعة، فأستبشر خيرًا بصلابتها، وأهنئها بكلّ خلية أنثوية فيّ على جرأة قرارها، لتعمد، بكل صفاقة وخبل، إلى إطفاء محرّك السيارة التي لم تتحرّك أساسًا وملازمة الخنوع.
أنّى لراياتي المرفوعة عاليًا ولو بعنقِ ملتوِ وصوت مكمّم أحيانًا أن تُسمع وتُرى، والمستمعون والمشاهدون من الرجال وحدهم، من المحيط إلى الخليج، يجاوزون الملايين؟ لا لوم لي على إليسّا أو كاتب أغنيتها، ففيها من الحب ما يسطّح الأنا ويوحي بعائلة صغيرة توشك أن تتشكّل وتثري رصيد المجتمع الأُسَري وتسهم في تفكّكه الحتمي بعد سنوات. لا لوم لي على نانسي ومخرج الفيديو، ففيه لفتة إلى مرض الإدمان والعنف اللفظي والجسدي، وجرعة زائدة من الديكتاتورية الذكورية والسخرة الأنثوية في معضلة تنافس أزلية بدأت بتفاحة قسمت وحدة الحال شطرين. ألوم ثقافة التشيئ المتسلّلة إلى كل مفاهيمنا، والتطبيع بمعنى جعل الشيء “طبيعيًا” جدًا، وكأن حدوثَه بات مسلكًا، ووجودَه لزامًا.
أيّ تمكين للمرأة سيكون في ظلّ ثقافة تحثّها على اعتناق نفسها جسدًا مُعدّا للتلقّي والخدمة، دمية أقصى أحلامها ليلة عرس وبيت يؤويها ورجل “يسترها”؟ أيّ مكانة غير الدِرك ستصل إليه باستمرارها في قبول المذلّة والرضوخ والسكوت والتهاون وتقمّص دور الضحية في سينوغرافيا حياتها هذه؟
أرفع الصوت على القرص المدمج، ويصدح صوت #فيروز، واثقًا، هادرًا بسكونه اللامبالي وهي تقول “مش فارقة معاي” ليشقّ نور الشمس حجاب الغيم، ويسطع في الأمل من جديد.