العراق… تجربة لو نتعلم منها
بقلم: د. سنية الحسيني
النشرة الدولية –
منذ احتلاله عام ٢٠٠٣ والعراق يعاني، ورغم أن معاناته قد سبقت ذلك الاحتلال بثلاثة عقود، بدءاً من الحرب العراقية الإيرانية ومروراً بسنوات حصار غربي خانقة انتهت بالاحتلال الأميركي للعراق، إلا أن معاناة العراق الحقيقية بدأت بالفعل مع هذا الاحتلال. شهد العراق خلال سنوات احتلاله أصعب مآسيه، اذ اعتدنا سماع أخبار الصدامات الطائفية والتفجيرات الدموية وسقوط عشرات الضحايا بشكل يومي على مدار سنوات عدة، فاعتبرت الأمم المتحدة أن هذا البلد أكثر بلدان العالم عدداً في نسبة المعاقين والأرامل واليتامى، ناهيك عن ارتفاع معدلات الفقر بشكل كبير.
منذ احتلاله، بدأ يشهد العراق تدخلات خارجية وإقليمية تحكمت بمصيره ومستقبله، فقد جرى وضع دستور البلاد في ظل الاحتلال على أساس نظام المحاصصة، انطلاقاً من أنه بلد متعدد الطوائف والعرقيات. ويبدو أن ذلك قد جاء استرشاداً بتجربة وضع الدستور اللبناني الذي يقوم أيضاً على أساس المحاصصة، والذي أنتج حرباً أهلية وصدامات طائفية عديدة، وفشلاً مؤسساتياً رسمياً لا يزال يعاني منه لبنان حتى اليوم. فقضية المواطنة والانتماء للوطن، بغض النظر عن دين أو عرق أو لون، لم تكن الأولوية لدى الاحتلال الأميركي لتجسيدها في دستور العراق الجديد الذي أقر عام ٢٠٠٥، على الرغم من أن الدستور الأميركي والنظام في الولايات المتحدة يقوم على تذويب كل الأعراق والألوان والأديان في بوتقة واحدة على أساس المواطنة الأميركية.
حمل العراق مفارقات خاصة، إذ اعتبر عدواً لكل من الولايات المتحدة وإيران في نفس الوقت، فالعراق كان منافس إيران الأول في المنطقة، وخاض البلدان حرباً ضروساً لم يخرج منها منتصراً. في حين لا تخفي الولايات المتحدة عداءها للبلدين، وكانت معنية باستمرار الحرب بينهما خلال ثمانينيات القرن الماضي، لتصفية قدراتهما، خصوصاً لمكانتهما الإقليمية المميزة في ذلك الوقت، فدعمت العراق بالسلاح من جهة، وكشفت بعد ذلك فضيحة إيران – كونترا، حيث كانت أميركا تمد إيران أيضاً بأسلحة نوعية في تلك الحرب. واعتبرت الولايات المتحدة العراق بلداً عدواً، ومن ضمن من صنفتهم بـ “دول محور الشر” بالإضافة إلى إيران وكوريا الشمالية، حيث كان العراق يمتلك جيشاً قوياً ومميزاً بين جيوش المنطقة، ويسعى لتطوير قدرات نووية، ويعادي إسرائيل، حليفتها الأولى في هذا العالم. إن ذلك يفسر السبب في التعاون بين الولايات المتحدة وإيران على إضعاف العراق بعد احتلاله عام ٢٠٠٣. فلم يقف معظم شيعة العراق في مواجهة الاحتلال الأميركي وهادنوه، بايعاز من مرجعيتهم الدينية في قم، في ظل ضعف المرجعية العراقية في النجف خلال عهد الاحتلال. ويفسر ذلك السبب وراء لجوء سلطات الاحتلال الأميركية لتدعيم مكانة الشيعة سياسياً في البلاد ورفعهم إلى رأس السلطة على حساب الطوائف الأخرى.
قام الاحتلال الأميركي، ووفق سياسة مكررة، بدعم الطبقة السياسية الحاكمة في العراق بكثير من الأموال والامتيازات بحجة بناء مؤسسات الدولة وجيشها، فسادت السرقات وعم الفساد، والذي بات مستشرياً اليوم، إذ يحارب المستفيدون اليوم بكل طاقاتهم لاستمرار سيادة النظام القائم. ومن أغرب المفارقات أن جيشاً يقترب عدد أفراده من المليون، مدجج بالسلاح الأميركي، ومدرب من قبل الجيش الأميركي، فشل في صد بضعة آلاف من تنظيم داعش عندما قاموا بغزو العراق والسيطرة على ثلث البلاد. لم يعد العراق بذات الأهمية اليوم للولايات المتحدة، التي لا تهتم حتى لمصيره، وهي صاحبة المسؤولية الأولى. على الجانب الآخر، تعاملت إيران مع العراق على مستويين، دعمت الشيعة على المستوى السياسي للسيطرة على مقاليد الحكم، وفي ذات الوقت قدمت السلاح والعتاد للمليشيات المسلحة في البلاد. أما إيران فتهتم باستمرار ببسط سيطرتها على العراق، الذي يجب أن يظل ضعيفاً وأسيراً لقرارها، لأن عراقاً قوياً يذكرها ببساطة بعهد صدام حسين. فعلى سبيل المثال تدعم إيران العديد من الجماعات الشيعية المسلحة في العراق، في حين أنها تدعم في لبنان حزب الله فقط، وفي اليمن جماعة الحوثيين فقط، الأمر الذي يفسر قوة وصمود حزب الله والحوثيين في لبنان واليمن، وضعف وتشتت الجماعات المسلحة الشيعية في العراق.
تتفق الولايات المتحدة وإيران على دعم تحالف الإطار التنسيقي الشيعي ليبقى مسيطراً على حكم العراق. ويتكون تحالف الاطار التنسيقي من خمسة أحزاب أو تكتلات شيعية بقيادة نوري المالكي، رئيس الوزراء السابق، ويعتبر معظم أقطاب تلك التكتلات، وهذا الإطار، الطبقة السياسية الحاكمة للعراق منذ احتلاله. ويقف البلدان اليوم ضد مقتدى الصدر الذي فازت كتلته في الانتخابات التشريعية الأخيرة العام الماضي بأعلى الأصوات، والذي صاغ تحالفاً مع أقوى تكتل سني وشيعي، وباتت كتلته تشكل أغلبية في البرلمان، وبات يسعى لتشكيل حكومة وطنية لا تقوم على أساس المحاصصة، بينما يطالب الاطار التنسيقي بتشكيل حكومة توافقية تنسجم مع المعطيات الدستورية حسب وصفه. وتصدى الإطار التنسيقي للتكتل الصدري في البرلمان، المكلف حسب الأصول الدستورية بتشكيل الحكومة واختيار رئيس الوزراء، حيث استخدم الثلث المعطل لتحقيق النصاب القانوني الذي يسمح بانتخاب الرئيس، الذي سيكلف الكتلة الأكبر في البرلمان لتشكيل الحكومة. تلك المهاترات استمرت على مدار أشهر معطلة الحياة السياسية والبرلمانية في البلاد، كي تحرم الصدر واتباعه من تشكيل الحكومة. وهذه الحالة لا تواجه العراق أول مرة، فقد نجحت في انتخابات العام ٢٠١٠ القائمة العراقية بأكثر مقاعد البرلمان مقارنة بالاحزاب الأخرى، فتوحدت القوى الشيعية المشرذمة بأوامر عليا لمصادرة فوز القائمة العراقية للاحتفاظ بالسلطة ضمن المنظومة القائمة.
وفي الأحداث الأخيرة يعاقب الصدر على تمرده على المنظومة التي وضعت في العراق منذ عقدين، فلم يطالب فقط بحل البرلمان الحالي والدعوة لانتخابات جديدة، إنما دعا جميع الأحزاب والكتل والقيادات التي عملت منذ العام ٢٠٠٣ إلى أن لا تشارك في تلك الانتخابات. منع الصدر من تشكيل الحكومة، وجاءت محاولات إيرانية للتشكيك بولايته، حيث دعا كاظم الحائري، وهو مرجع ديني أوصى به والد مقتدى الصدر قبل وفاته، مقلديه ومريديه بالتحول عن مقتدى إلى طاعة المرشد الأعلى على خامئني. والآن من الواضح أن الإطار التنسيقي يستكمل إجراءاته بهدف انتخاب رئيس، واختيار رئيس وزراء جديد.
في كل الحالات، اذا لم يتم التوافق مع الصدر والوصول إلى حل وسط ستبقى البلاد تحت تهديد الانفلات والصراع الدموي من جديد. فعلى الرغم من أن الصدر ليس مرجعاً دينياً بالمقاييس المتبعة، الا أنه مصدر إلهام وتأييد شعبي من قبل العديد من الشيعة وغير الشيعة أيضاً، لأنه سليل عائلة سياسية ودينية مؤثرة، وله القدرة على الحشد والتبعية داخل الشارع العراقي، ويستند إلى الاستياء الشعبي في البلاد من الفساد والمحسوبية والتدخلات الخارجية في صنع القرار. يدعو الصدر لتحرير العراق من الفساد، وكذلك من السيطرة الخارجية ضمن شعار “لا شرقية (إيران) ولا غربية (أميركا)”، كما يمتلك الصدر جناحاً عسكرياً يعد من أقوى الاجنحة العسكرية في العراق.
في الختام، علينا أن نتعلم من التجربة العراقية المرة، فرغم أن فلسطين ليست ساحة لانقسامات عرقية أو دينية كلبنان والعراق، الا أنها تخضع للاحتلال وتتعرض لتدخل أحياناً من بعض القوى للتأثير على صنع القرار فيها. كما أن فلسطين ولبنان يعانيان من وضع داخلي هش، فلسطين في ظل الاحتلال، ولبنان في ظل ضعف الدولة والاحتجاجات المستمرة، كما أن فلسطين تعاني من انقسام تماماً كما لبنان يعاني من وجود تيارين متصارعين. وكما هو ملاحظ عادة ما تتبنى الولايات المتحدة أحد التيارين، بينما تتبنى إيران التيار الآخر، وعادة ما تسعى هذه الجهات الخارجية لخدمة مصالحها وأهدافها على حساب مصالح بل وأحياناً دماء الشعوب التي تستهدف بلدانها. لقد دفعت شعوبنا أثماناً باهظة اعتقاداً من أن الجهات الخارجية تقدم مساعداتها من أجل مصلحتها، والحقيقة أننا وحدنا من يقدر هذه المصلحة، دون ضغوط أو مساعدة.