فلسفة كرة القدم: عن المونديال
بقلم: بثينة عبد العزيز غريبي
النشرة الدولية –
موقع الواو –
على خلفيّة كأس العالم:
تاريخ كرة القدم من الكرة المحشوّة بالقنب إلى المطاطية: لهذه الأسباب كرة القدم ليست لعبة التفاهة والنفاق…
هي بالفعل حالة غريبة جدّا. كأنّ العالم واحد. حالة من التماهي والتجانس. يذوب الفرد داخل الجماعة، ليس إلاّ عنصرًا مكمّلًا لعنصر آخر داخل حلقة دائريّة لا تولي أهميّة لا للجنس أو الجنسية. لأنّ هذا الكلّ المتماسك داخل حلقة واحدة يحمل نفس الهدف وان اختلفت جنسيته. ويحمل نفس الإندفاع الغريزي والعاطفي في الدفاع عن الوطن والعلم. فيصير الملعب مسرحًا كبيرًا تترجم فيه مشاعر وأحاسيس وانفعالات وتفاعلات لا يمكنها أن تتحقّق بكل هذه الشفافية، وهذا الصدق خارج هذا الفضاء. هي لحظات من التعرّي والانفتاح على الآخر حتى من المجتمعات التي هي في العادة منغلقة على نفسها. تعيدنا حالة الملعب في كأس العالم سوق عكاظ، أين كان الناس يتبارزون شعرًا، والآن يتبارزون رقصًا من خلال لغة الجسد التي توحدهم.
كنت من أولئك المثقفين المحافظين الذين يرفضون كرة القدم، بل يتفّهونها ويعتبرونها تيّارًا عكسيًا لتدمير ثقافة المجتمع، واليوم صرت من هؤلاء الذي يسخرون من “أولئك”. كيف حصل معي هذا التحوّل؟
أعتقد أنّ كلّ ما في الأمر أن نعوّد أذهناننا على التفكير حتى فيما يبدو لنا بسيطًا أو ساذجًا غير مهم. إنّ العمق داخل كلّ موضوع، نفهمه منذ بداية تركيزنا على التفاصيل البسيطة. فكيف للكرة أن تجمع حولها كلّ هذا الكم من المختلفين جنسًا ولوًنًا، والمتناقضين فكرًا وعقيدة وانتماء؟ ففي ظل الظروف العالمية، حروب، أزمات صحية عالمية، احتكار، هيمنة رأسمالية وكل هذه الاشكالات المتعلقة بقضايا محورية ومركزية يتفق العالم حول كرة القدم في مسابقة عالمية: هل أنّ العالم يدير الحروب بطريقة ناعمة بواسطة كرة القدم؟ هذه الكرة التي يلتف حولها الاقتصاد والسياسة العالمية لا يمكن إلاّ تكون أيضًا جزء من هوية المجتمع؟
هذه التساؤلات التي تدعونا إلى التفكير في فلسفة كرة القدم تنتهي بنا إلى سؤال مركزي: هل أنّ كرة القدم مجرّد لعبة داخل ملعب تتنافس فيه فرق على الفوز باللّقب، أم هي ثقافات وسياسات واقتصاديّات مجتمعات تتنافس وتتحاور بحرية داخل الفضاء العام الهابرماسي، يمثلها لاعبي كرة القدم؟
كرة القدم كما يتمثّلها المبدعون:
لا يمكن ألاّ ننطلق من قصّة الشاعر الملتزم محمود درويش مع كرة القدم. ففي كتابه ” ذاكرة النسيان”، عبّر الشاعر عن يوم من أيام حصار بيروت سنة 1982 من خلال مشاهدة مباراة كرة قدم في ظروفها غير الطبيعية ويستحضر التالي:
“في أحد الملاجئ استطعنا استيراد الطاقة الكهربائية من بطارية سيارة. وسرعان ما نقلنا «باولو روسي» الى ما ليس فينا من فرح (..) كرة القدم، ما هذا الجنون الساحر، القادر على اعلان هدنة من أجل المتعة البريئة؟ ما هذا الجنون القادر على تخفيف بطش الحرب وتحويل الصواريخ الى ذباب مزعج! وما هذا الجنون الذي يعطل الخوف ساعة ونصف الساعة، ويسري في الجسد والنفس كما لا تسري حماسة الشعر والنبيذ واللقاء الاول مع امرأة مجهولة..وكرة القدم هي التي حققت المعجزة، خلف الحصار، حين حركت الحركة في شارع حسبناه مات من الخوف، ومن الضجر.”
ووصف أستاذ الفلسفة بجامعة نيويورك سيمون كريتشلي، كرة القدم في حوار له حول كتابه “بماذا نفكر عندما نفكر في كرة القدم”، (والذي ترجمه عبد الله بن محمد لفائدة مجلة الدوحة في عددها الصادر 10 نوفمبر 2022) :”إنها مثل موسيقى الجاز بهذه الطريقة، فهي تحكمها سلسلة من القيود -كلمات، ونغمات، وسلسلة من القواعد التي تضبط الآلات واللحن- ولكن وسط كل ذلك يمكنك فكّ الارتباط والارتجال. الارتجال مرتبط بالفضاء. بمعنى ما، كل ما يفعله اللاعب العظيم هو فهم الفضاء والبحث عن مساحة، وبعد ذلك، عندما يجد تلك المساحة، يرتجل شيئاً ما.”
ويواصل سيمون كريتشلي فيعرّف اللاعب الرائع على أنّه: “اللاعب الذي يمكنه توفير مساحة من حوله. الآن، من الواضح أن هذا غير منطقي من الناحية الموضوعية، ولكن فيما يتعلّق بظواهر تجربة اللعبة، يمكن للاعب أن يصنع لنفسه فقاعة وسط الفضاء ويسمح لنفسه بارتجال شيء ما. الشيء الآخر هو التعاون بين اللاعبين.”
في كتابه “كرة القدم في الشمس والظل” لإدوارد غاليانو، عن ترجمة لصالح العلماني، وصف كرة القدم كـرقص ٍ بكرة خفـيفة مثل البالون الذي صوفـية: يصبح راقصًا يطير فـي دون الھواء أو مثل كبة الصوف التي تتدحرج.
ويصف المخالف كالتالي:” ومن حسن الحظ أنه مازال يظھر فـي الملعب، حتى وإن كان ذلك فـي أحيان متباعدة، ٌ وقح مستھتر يخرج على النص ويقترف حماقة القفز عن كل الفريق الخصم وعن الحكم وجمھور المنصة، لمجرد متعة الجسد المنطلق إلى مغامرة الحرية المحرمة.”
يتفق المبدعون من خلال ما رصدناه على الصفات التالية لكرة القدم: هي “الجنون الساحر” و“المتعة البريئة” واللاعب من خلالها “يطير في الهواء” اذا أوجد حوله “الفضاء والمساحة الحرة” لممارسة جنونه.
الكرة من القنب الى المطاط والهواء
بالعودة إلى كتاب ” الكرة في الشمس في الظل” لإدواردو، نفهم أنّ كرة القدم مرّت بعدة مراحل تاريخية يمكن تقسيمها حسب المادة التي صنعت منها:
“في الصين صنعت من الجلد وتم حشوها بالقنب. وزمن الفراعنة صنعها المصريون من القش أو قشور الحبوب وكان الإغريق يستخدمون مثانة جاموس منفوخة، أما أوربيو العصور الوسطى وعصر النهضة فكانوا يتنازعون فيما بينهم كرة بيضوية مملوءة بشعر أعراف الخيول وفي أمريكا كانت الكرة من المطاط وبفضل عبقرية توسوليني وبالبونسي ويوليو وهم ثلاثة أرجنتيين من كوردوبا ولدت الكرة التي يمكن لمسها باليد وهم من اخترعوا الاطار الداخلي المزود بصمام والذي ينتفخ بحقنة ومنذ مونديال 1938 صار بالامكان ضرب الكرة بالرأس دون خوف من الذي كان يسببه الرباط المستخدم سابقا في ربط الكرة.”