لماذا قراءات فلَّاح؟ فلَّاح يقرأ، لتتسامى أكثر وأكثر مهنة الفلاحة وتأخذ منحى آخر وصورة برَّاقة كما تلمع صخور برحليون
النشرة الدولية
خديجة البعلبكي –
“قراءات فلَّاح”، اسم الكتاب الأوَّل للأستاذ يوسف طراد، ابن برحليون، قرية في الشَّمال، وتكاد تكون نجم الشَّمال.. لماذا قراءات فلَّاح؟ فلَّاح يقرأ، لتتسامى أكثر وأكثر مهنة الفلاحة وتأخذ منحى آخر وصورة برَّاقة كما تلمع صخور برحليون حين تسطع عليها شمس لبناننا.. ما تلبث أن تجد محتوى الكتاب هو مجموعة مطالعات وقراءات الأستاذ يوسف لكتب تنوَّعت من السِّياسة، إلى التَّاريخ، إلى الشِّعر، إلى النَّقد، إلى الأدب العامّي، واللَّائحة تطول..
إنَّه حقّاً الفلَّاح الذي يحرث محتوى الكتاب بحبٍّ جارف لتربة الأبجديَّة.. يسكب من فيض قلبه بين الأثلام، فينبت بعدها زرع له وهج دافئ كالشَّمس، رقيق كالنَّسائم والزُّهور، وتفرُّد يشبه صلابة الزَّهرة التي نبتت في رقَّة الصَّخر..
إنَّ هذا الكتاب شهادة كافية لتقول وبالفم الملآن أيُّها القارئ أنَّه ليس فقط من يحمل الشَّهادة الأكَّاديميَّة جدير به أن يقرأ، يتعمَّق، ويكتب مطالعات أدبيَّة ونقديَّة.. وإنِّي لأجرؤ على قول ذلك وأنا من حملة تلك الشَّهادات؛ ولكم وجدت في الحياة أنَّ الأشخاص الذين يبرعون في مجال معيَّن وليس لهم باع في نيل الشَّهادات العالية يتفوَّقون بشكل فذّ، لدرجة أنّي منذ بدء قراءتي لمطالعات الأستاذ يوسف طراد، ظننته أستاذاً في مجال الأدب، لتفاجئني صورة أخرى له تزيده رِفعةً، ويزيد التَّقدير له والاحترام لِما حباه الله من الموهبة، الفكر والشَّغف؛ وهؤلاء الثَّلاثة يعادلون بل ويفوقون دراسة جامعيَّة في النَّقد والأدب..
ربَّما هذه المرَّة أكتب بأسلوب مختلف، إذ لست أكتب بأسلوبٍ نقديٍّ كما المعتاد، بل انقاد القلم دون إرادة لتسليط الضَّوء على قيمة عظيمة لشخصيَّة فذَّة من بلدي أتقنت أيّما إتقان القراءة العميقة، السَّلاسة الأدبيَّة، الإحاطة المتوازنة بالمحتوى، مع إضافة عنصر شاعريٍّ من الصُّور البيانيَّة، العبارات المجازيَّة والأدوات الأدبيَّة التي تنمُّ عن شغف شديد شحَذَ الفكرَ وموهبةٍ صقَلَها تأمُّلٌ مديد للطَّبيعة والحياة من قِبل الأستاذ يوسف طراد.. وهذا شاهد أنَّ الطَّبيعة التي هي من صُنعِ ﷲ تعلِّم الإنسان أكثر ممَّا تعلِّمه إيَّاه الصُّروح التَّعليميَّة..
قراءات الأستاذ يوسف طراد تدلُّ على قوَّة تشرُّبه لمحتوى الكتب، فتجده قد أحاط بالمعاني دون جهد، بل ويخيط النَّص مع تضمين اقتباسات تجدها كالقطبة التي تتآلف مع الأصل دون شعور بأنَّه تمَّ إدخالها عنوة.. ويحيط الكتاب برؤيته المفاهيميَّة، التَّأويل والدُّخول إلى ذاتيَّة الكاتب وتصويرها بموضوعيَّة.. ولا تخلو القراءات من انطباع شاعريٍّ للأستاذ يوسف يمنح صبغة خاصَّة للمطالعة فتغدو غنيَّة، مبتلَّة بالعاطفة ونفحات الشِّعر.. بل والصِّياغة الفريدة نهج قلمه، إذ لا يحاكي محتوى الكتاب فقط، بل ويُدخِل أسلوبه وفكره، فتجد أنَّ لقلمه حضور خاصٌّ يرصِّع به سماء المطالعة.. يأتي بصور بيانيَّة، عبارات مجازيَّة وأفكار عميقة تجعلك تتساءل من أين؟ فهي ليست من رحم الكتاب الذي قرأه، بل من أعماق وهاد فكر سكن الطَّبيعة حتى باتت جزءاً لا يتجزَّأ منه؛ منحته أبجديَّتها وتعاليمها، فجسَّدها في أدبه.. وإنَّه لحريٌّ أن يقال عن مطالعاته أنَّها أدب بحدِّ ذاته، لسمة خاصَّة بها تختلف عن مطالعات كثيرة تُقرأ.. بل ولقوَّة التَّمكُّن، سعة الفكر واليقظة الذِّهنيَّة وجود أصيل في مطالعاته، لا يتوقَّف عند كتابة ما تفاعل مع فكره وعواطفه، بل ويضيف مقارانات وروابط مع أدباء آخرين ليستشهد بما كتب هذا الأديب وذاك..
إنَّ الحياة القاسية والظُّروف الخشنة لم تغيِّر من طبع الأستاذ يوسف وحسِّه الرَّهيف، بل ازداد ليسكب ذلك في قالب خاصٍّ من الكتابات المطعَّمة بالشَّاعريَّة والفكر الانطباعيِّ..
إنَّ قراءة قراءات الأستاذ يوسف طراد لا تعطيك فكرة عن محتوى الكتب فقط، بل تتجاوز ذلك بكثير.. تطبع في داخلك رؤية أخرى للصِّياغة الأدبيَّة، وتجعلك تنتقل من النَّقد الأدبيِّ الجافّ إلى القراءة الأدبيَّة الغنيَّة المتشرِّبة بالعاطفة والفكر معاً.. ثم إنَّها تطبع في داخلك أيضاً بعد أن تعرف من هو الأستاذ يوسف طراد دهشة صلبة وحافزاً لتتقدَّم وتضيف المزيد إلى جعبتك أيُّها القارئ، مهما كنتَ في مسيرةِ حياتك.. إذ كلُّ هؤلاء، الإصرار، العزيمة القوَّة الإبداعيَّة تدعك تفكِّر، لماذا لا أضيف شيئاً إليَّ ممَّا لا تضيفه الشَّهادات..
شكراً لكم أستاذ Youssef Trad، وعلى أمل رؤية نتاج أدبيٍّ من نصوص نثريَّة أو شعريَّة من سلاف قلمكم وفكركم.. دمتم..