هل أخطأ ميقاتي في التعبير؟ وما حقيقة وجود صفقة للتنازل عن الخط 29؟
بقلم: اكرم كمال سريوي
النشرة الدولية –
الثائر –
هل ما قاله رئيس الحكومة اللبنانية أمس كان خطأً في التعبير، أم هو في الحقيقة عبّر عن الموقف الرسمي اللبناني، وما حُكي عن تنازل لبنان عن الخط ٢٩، وتقديم ضمانات للوسيط الأمريكي بذلك أثناء زيارته الأخيرة للبنان، مقابل رفع العقوبات عن جبران باسيل، وحفظ مصالح وثروات مسؤولين آخرين في الخارج؟؟؟
قال ميقاتي : “إن الخط ٢٩ هو خط تفاوضي” وهو بهذا القول يبدو وكأنه قدّم تراجعاً مجاناً، وكشف عن نية لبنان التنازل عن هذا الخط. وفي عِلم الدبلوماسية والمفاوضات، هذا خطأ مبدأي في قيادة عملية التفاوض.
الحقيقة أن مسألة الحدود البحرية بين الدول لا تشبه مسألة الحدود البرية. ففي البحار لم يكن يوجد سابقاً خرائط ولا معالم حدودية ثابتة ولا جدران ولا أسلاك شائكة، وبالتالي هي أشبه بتفاهمات سيادية واستثمارية غير مرسومة بدقة، نشأت مع الوقت، واكتسبت أهمية خاصة بعد اكتشاف الثروات النفطية في البحار، ولذا هي ما زالت موضوع اجتهاد ونزاع حتى في القوانين الدولية ومسائل التحكيم، في النزاعات التي نشأت في أكثر من مكان في العالم، حول طريقة الترسيم، وكيفية احتساب تأثير الجُزر، وظروف ونسبة احتساب هذا التأثير.
إن الخط ٢٩ الذي رسمته لجنة فنية من الخبراء، وتبنّاه الفريق اللبناني المفاوض، هو يستند إلى قواعد القانون الدولي، وتدعمه عدة أحكام صادرة في أكثر من نزاع مشابه بين دول العالم، ولذلك هو ليس خطاً “تفاوضياً” تم طرحه من قبيل المزايدة، كما يوحى حديث رئيس الحكومة وبعض المسؤولين اللبنانيين، بل هو خط قانوني علمي تقني بالكامل.
لا يعني هذا الكلام أنه بمثابة خلق “مزارع شبعا بحرية” لا يمكن التنازل عنها كما يُشاع، ففي المفاوضات البحرية يُقدّم كل طرف أقصى ما لديه من حجج قانونية، لكن عليه أن يكون جاهزاً للتراجع عن أي مطلب او طرح، فيما لو ثبت أنه على خطأ، ولا يتفق طرحه مع مبادئ القانون الدولي للبحار، وعلى الوسيط أن يقرّب وجهات النظر للوصول إلى اتفاق عادل بين الطرفين، أو عليهما الذهاب إلى التحكيم الدولي، الذي يجب أن يراعي قواعد العرف والقانون الدوليين، ومصلحة الأطراف المتنازعة في فض الخلاف، والوصول إلى حلول مرضية للطرفين.
إن التمسك بالحقوق والقواعد القانونية التي استند إليها الخط 29 ليست مزايدة على الإطلاق، وكان يجب على المسؤولين اللبنانيين أن يدعموا موقف الوفد المفاوض في طرحه، عن طريق توقيع المرسوم 6433 لتعديل الحدود البحرية، واعتماد الخط 29 كخط قانوني للحدود، وإرسال المرسوم إلى الأمم المتحدة، وليس الاكتفاء برسالة ليس لها أي مفاعيل قانونية، وعليهم التحلي بمعرفة وافية لحقيقية وطبيعة القوانين الدولية، وطرق حل النزاعات الحدودية البحرية، التي لا بد لها في نهاية المطاف أن تصل إلى حل مناسب، يكون عادلاً في توزيع الثروة المشتركة، لأنها هي جوهر الخلاف، ويكون مقبولاً من طرفي النزاع.
قد يكون الكلام عن تفريط المسؤولين اللبنانيين بحقوق لبنان البحرية هو غير صحيح، ونوعاً من المبالغة والمزايدات الشعبوية، ونريد الابتعاد عن نظرية الخيانة والمؤامرة ووجود الصفقات، رغم كل ما حُكي عن ذلك، وإذا كانت موجودة فعلاً وحقيقةً، فعلى من يعلم بها أن يأخذ الإجراءات القانونية اللازمة، بحق هؤلاء الأشخاص مهما علا شأنهم، وإلّا كان امتناعه وتستّره على هذا الجرم بمثابة اشتراك فيه.
لا قيمة لمزايدات البعض أيضاً تحت عنوان: ” لا غاز من كاريش دون غاز من قانا” ، فلبنان غير قادر على فرض معادلات بالقوة من خارج القانون الدولي، وإن المغامرات غير المحسوبة النتائج، هي نوع من الغوغائية التي تجلب الضرر للبنان. وربما على هؤلاء أن يسألوا : لماذا توقّف الحفر في البلوك رقم 4 ؟؟؟ ولماذا لم يبدأ الحفر في غيره من البلوكات الباقية بعد؟؟؟ بعيداً عن نزاعات الحدود وخلق الأعذار؟؟؟
لا يمكن أن يكون رئيس الجمهورية اللبنانية ولا رئيس مجلس النواب ولا رئيس الحكومة أو غيرهم من المسؤولين في وارد التنازل عن حقوق لبنان، ولا نريد أن نكون ممن يعتقدون ذلك. لكن ما يحصل يؤكد بلا شك حصول خطأ ما أو قطبة مخفية في قيادة عملية التفاوض، بشأن الحدود البحرية.
والآن مع اقتراب موعد عودة الوسيط الأمريكي عاموس هوكشتين، يجب التركيز على التمسّك بموقف موحد للتفاوض، يستند إلى القوانين الدولية، وإذا كان الوسيط الأمريكي يهدد بوقف وساطته في حال تمسّك لبنان بالخط 29، فعندها يجب أن يسارع لبنان لإبلاغ الأمم المتحدة بشكل رسمي بوجهة نظره لخط الحدود مع فلسطين المحتلة، وبأن حقل كاريش يقع ضمن المنطقة المتنازع عليها. فبالرغم من وجود حقل قانا وأهمية الحفر فيه للبنان، لكن لبنان ما زال يحتاج إلى وقت طويل لإتمام ذلك، بينما باتت إسرائيل على عجلة من أمرها، وغير مستعدة لتأجيل استثمارها لحقل كاريش، وستكون مجبرة على العودة إلى طاولة المفاوضات بأسرع وقت ممكن.
إذا لم يُقدِم المسؤولون اللبنانيون على ذلك، فإنهم يُثبتون أنه في الحقيقة هناك صفقة معينة، تمت مع الأمريكيين لمصلحة أشخاص، على حساب حقوق لبنان وشعبه. ومع الأسف طبعاً فهذه ليست المرة الأولى التي يكون فيها موقف لبنان ضعيفاً، بسبب المناكفات والخلافات الداخلية، والتلكؤ في المبادرة، وعدم اتخاذ القرار الصحيح. والأسوأ من ذلك هو قلة دراية وخبرة البعض، بتفاصيل ودقائق المسائل القانونية وأحكام القانون الدولي، وخضوع البعض الآخر إلى الضغوطات والتدخلات الخارجية، وفي المحصلة تكون النتيجة واحدة خسارة للبنان.