الدكتاتور عندما يريد تخليد نفسه
بقلم: حافظ البرغوثي
النشرة الدولية –
قبل تنحّيه عن الحكم قبل سنوات قليلة لما امتد ثلاثين سنة، وقف نور سلطان نزارباييف في البرلمان متذمراً من أنه دعا علماء بلاده أكثر من مرة للبحث عن ترياق يطيل عمره لكي يواصل حكم بلاده.
وكان نزارباييف قد أصيب بداء الاستمرار في الحكم عند انتخابه آخر مرة لولاية أخيرة مع تقدمه في السن، إذ إنه كان يحاول العثور على إكسير الحياة لكي يبقى في الحكم مخلدا.
والخلود صفة إلهية لا تنطبق على البشر، لكن من مسه جنون الحكم يظل يحلم بالبقاء لكي يستمتع بالحكم، وتلك حالة مرضية، لأن لكل إنسان أجلا لا يمكن تأخيره.
في سنة 2009، سافرت إلى بوخارست بحثاً عن عزلة لأكتب رواية عن تصنيع الدكتاتور، وكانت تلك أول محاولة لسبر غور الدكتاتور العربي أينما كان قبل الحركات الشعبية التي جرى تحويرها بفعل خارجي إلى موجة تدمير للدول وليس للأنظمة.
وكنت في سنة 1986 قد التقيت نيقولاي شاوشيسكو رئيس رومانيا آنذاك، الذي حكم تلك البلاد لفترة طويلة، ولمست أثناء تلك الزيارة واللقاء به لإجراء مقابلة لصحيفة القبس الكويتية، حال تلك البلاد والخوف المهيمن فيها، حتى أن الفندق الذي نزلنا فيه كانت ردهته مضاءة بإعلان لسجائر مالبورو فقط، فبدا معتماً..
وكنت أرى المتاجر الاستهلاكية فارغة، والأكل في المطاعم محدوداً، ولا يمكنك أن تطلب أكثر، ولمست القيود على الحركة والتنقل، وكيف يعمل العمال في إشغال الطرق بنظام عسكري صارم..
كما لاحظت النحافة لدى الناس، ربما لأنهم لا يأكلون جيداً، بينما تصدر بلادهم الطعام إلى أوروبا الغربية لتسديد ديونها، كما أن الأسئلة التي يجب أن توجه إلى شاوشيسكو جرى أخذها قبلها بوقت، وقيل لنا إنه يحظر الخروج عنها، وعند دخولي أعطوني ردوده مكتوبة سلفاً على الأسئلة، لكنني تجاوزتها ووجهت أسئلة جديدة..
فانتفض المرافقون وكأنني ارتكبت جريمة، لكن الدكتاتور لم يرفض وواصل الإجابة مبتسماً.. وهنا خطرت على بالي فكرة أن الدكتاتور يصنعه من هم حوله. لكن ما حيرني في ذلك اللقاء أن شاوشيسكو قال في نهاية إجاباته: ”لقد انتهينا من توفير الأساسيات والضروريات لشعبنا، وسننتقل إلى الكماليات منذ الآن، ولا ديون علينا“.
في بوخارست كتبت الجزء الأول من روايتي ”سعيد الأول.. والواحد والعشرون“، ونظراً لضيق الوقت أرجأت إكمالها إلى إجازة أخرى، لأنك عندما تدخل الرواية وتخرج منها تحتاج إلى وقت لتعود وتدخلها وتستعيد شخوصها وأجواءها.
فبحثت عن عزلة بعدها بشهور في طشقند، وكنت في النهار أتجول في معالم أوزبكستان من طشقند إلى مقام البخاري إلى سمرقند، ولاحظت أن أغلب مَن وضعوا كتب الحديث الشريف من تلك الديار من البخاري إلى الترمذي وقريباً منهم الإمام مسلم في نيسابور، ما أثار في نفسي تساؤلات عن تكدس الرواة في تلك المنطقة، وكانت لغتهم الأم الفارسية، وتفاديت الدخول في الرواية التي صدرت سنة 2009 عن دار فضاءات في الأردن إلى نقاش حول علم الحديث لأنه معقد.
وفي الليل أكتب على مدى أسبوع، وكنت أظنني أتخيل عندما كتبت أن الدكتاتور سعيد، بطل الرواية، استقدم علماء من أوروبا لإطالة عمره، وأنشأ مركزاً علمياً طبياً لهذا الغرض..
ولما أبلغه الأطباء أن إطالة عمره ممكنة علمياً لبعض السنين، أما الاستنساخ فهو أضمن، رفض، لكنه طلب منهم أن يستنسخوه عشرين مرة كل نصف قرن، لتظل النسخ المستنسخة منه تحكم مكانه، إلى أن يتم استنساخ روحه؛ فالشغف في الحكم يمسك بتلابيب بعض الحكام، ويحاولون القفز إلى المستحيل وتخليد أنفسهم.