ثروة سوريا المخبأة

May be an image of one or more people

صبا مدور

النشرة الدولية –

شخصياً كنت أتمنى أن يحتفل محمد حسين هرموش بشهادة تفوقه في الثانوية العامة وسط أهله وعائلته الكبيرة في جبل الزاوية بإدلب، وأن تعود هبة الرفاعي إلى بيت ذويها في ريف دمشق وهي تحمل لهم نبأ تفوقها في كلية الصيدلة وتخرجها بالمرتبة الأولى، وان تكون خطابات عمر الشغري الملهمة والشجاعة داخل بانياس حيث نشأ، محدثاً أهلها عن المستقبل والبناء والعافية.

أتمنى، وكثيرا ما تمنيت أن يكون لكل سوري مكان في بلده، وأن يكون لكل قطرة عرق يصبها في درب نجاحه، مساحة من أرضه تمتصها وترتوي بها. أن تنهض سوريا بشعبها المتقد، النشط، وأن يحظى الجميع بالكرامة والحرية والفرصة للإبداع والنجاح.

مشكلة الأمنيات أنها تنهال علينا حينما يكون كل شيء معاكساً لها، فلا سوريا نهضت بأبنائها، ولا أهلها وجدوا فيها ملاذاً وحصناً، وبدلا من ذلك، عاث نظامها، ومن هب ودب من داعميه في أرضها فساداً، وأوغلوا في تقتيل وتشريد الناس وكتم انفاسهم واحلامهم، حتى أقفرت، ورحل عنها أفضل من فيها، ليصنعوا بعد رحلات شقاء وتعقيدات شتى، قصص نجاح ملهمة في مواطن اللجوء، تجعلنا نفخر بأنفسنا، ونأسف لوطن أضاع ناهبوه فرصة بنائه واستفادته من قدرات شعبه.

في تركيا أقرأ عن 30 سوريا تخرجوا هذا العام بتفوق مطلق من الجامعات الحكومية فقط، وعن إحصائية تظهر أن 24 بالمئة من السوريين في ألمانيا حصلوا على وظيفة رغم العقبات أي أنهم لم يعودوا يحصلون على إعانات الدولة وباتوا يدفعون الضرائب، وقبل ذلك قرأت عن سيدتين سوريتين فازتا في الانتخابات الألمانية العامة وسوري آخر فاز ببرلمان برلين، كذلك أقرأ عن أن السوريين في تركيا أسسوا أكثر من 10 آلاف شركة حتى مطلع أيلول/سبتمبر 2018، وفّرت العمل لنحو 44 ألف سوري وهو ما يضمن إعالة نحو 250 ألف لاجئ سوري يعيش في تركيا.

أقرأ عن هذه النجاحات وسواها، ولا يفاجئني أي منها، لكنها دوما تعيد على خاطري تساؤلات عن الهدر الكبير لطاقات سوريا بسبب نظام قام بتجريف كل شيء في البلاد، من حجر وبشر، ماض ومستقبل، حتى لم يعد في سوريا غير الذكريات البعيدة، وكثير من الألم والتردي وغموض المستقبل.

أتساءل، ماذا لو أن النظام لم يطلق سراح عمر الشغري بعدما اعتقله وهو فتى بعمر الخمسة عشر عاما وأبقاه ثلاث سنوات في السجن لمجرد أنه كان حاضراً في مظاهرة لم يكن يستوعب حتى سببها، ماذا لو مات عمر تحت التعذيب أو بسبب الجوع والمرض كما حصل لآلاف غيره من المعتقلين وما زالوا، وماذا لو ان والدته لم تجد فرصة للهروب به صحبة شقيقه بعد قتل النظام لوالده واشقائه الآخرين؟ ماذا لو كان قد غرق قاربه الذي أقله لبلاد اللجوء؟ ماذا كان سيحصل، ألم تكن سوريا لتفقد شاباً واعداً تعلم لغتين أجنبيتين وتعلم كل ما يلزم ليخاطب زعماء العالم بأقسى عبارات ممكنة ويطلعهم على حجم مسؤوليتهم عن خراب سوريا ومحنة شعبها.

في العام الماضي اطلعت على كتاب لكاتب سوري عنوانه: “نستطيع انجاز المهمة”، يتضمن قصص نجاح، بعد موجة اللجوء الكبرى إلى أوروبا عام 2015، وحسب مؤلف الكتاب اللاجئ من دير الزور بركات عبيد، فإنه بالرغم صعوبة الظروف تعقيداتها بالنسبة للاجئين، إلا أن وجودهم في بلد يسوده القانون، وتكافؤ الفرص كان كافيا ليبرز عدد كبير منهم ويكتبوا قصص نجاح متميزة، يكفي أنها تحصل في بيئات شديدة التنافسية ومع شعوب مجتهدة ومنظمة مثل الشعب الألماني، بعد تجاوز حواجز اللغة وظروف الاندماج.

ولم يكن في هذا الكتاب كل شيء، ولا كل الدول التي تضم اللاجئين السوريين، لكنه يمكن أن يقدم فكرة نموذجية لما يمكن توقعه من هؤلاء اللاجئين في كل مكان حلوا فيه، وما يمكن توقعه في حال بقوا في مواطن اللجوء، لسنوات مقبلة، وما يمكن أن يحققه الجيل الثاني والثالث منهم.

شخصيا أشعر بفخر تجاه هذه الوقائع، لكني أشعر أيضا بغصة لأنها لا تتحقق حيث يجب أن تتحقق، على الأرض التي تستحق جهود أبنائها، وهي بدونهم مجرد صعيد، خرّبها غربان الشر من القتلة والسفاحين والفاسدين وداعميهم.

ومع ذلك، فإني سأنظر للنصف الملآن من الكأس واعتبر أن نجاحات السوريين في مواطن لجوئهم، هي نجاحات مخبأة لوطنهم، وأن مجرد وجودهم الآمن خارج دائرة الموت الأسدي والإيراني والروسي، هو تأمين لثروة مخبأة، ثروة سوريا الحقيقية، وضمانة مستقبلها وبناء ما دمر منها بعد تحريرها.

أؤمن ان السوري لن ينسى بلده، فليست سوريا بلداً ينسى، واؤمن أن كل سوري سيقدم شيئا مما اكتسبه في رحلة لجوئه، حالما يكون هناك ظرف وفرصة تسمح بذلك وتستحقه.

زر الذهاب إلى الأعلى