مزيج من الارتباك الإيراني والتخلّف العراقي
بقلم: خيرالله خيرالله

النشرة الدولية –

يبدو المشهد العراقي في هذه الأيّام مزيجاً من الارتباك الإيراني والتخلّف الداخلي في بلد يحاول التصالح مع نفسه ومع تاريخه القديم الذي راح يشهد قفزات في اتجاه الأسوأ على كلّ الصعد. بدأ التراجع العراقي، خصوصاً اجتماعياً وحضاريّاً، منذ العام 1958.

يظلّ يوم 14 تموز (يوليو) من ذلك العام محطة فاصلة في تاريخ العراق وذلك بعد انقلاب عسكري تخلّلته مجزرة، ارتُكبت عن سابق تصوّر وتصميم، في حق العائلة المالكة الهاشمية وكبار رجالات الدولة الذين ساهموا في نهضة البلد مثل نوري السعيد. ليس الانقلاب الدموي الذي وقع في العراق سوى دليل آخر على ما فعله المدّ الناصري (نسبة الى جمال عبد الناصر) في المنطقة بدءاً بكارثة الوحدة المصريّة – السورية في شباط (فبراير) 1958. كانت الوحدة، التي أسّست لنظام أمني، بداية النهاية لسوريا التي وصلت في عهد بشّار الأسد الى ما وصلت اليه من كوارث.

في ضوء ما حصل في الجلسة الأولى لمجلس النواب العراقي الجديد، بات يصحّ التساؤل، هل من أمل في إنقاذ العراق، وهو إنقاذ من التخلّف قبل أيّ شيء آخر، بعد دخول نوّاب الكتلة الصدرية (نسبة الى مقتدى الصدر) قاعة المجلس وهم يرتدون الأكفان. أي بلد في العالم يلبس فيه نواب الأكفان داخل حرم مجلس النوّاب؟ هل أراد مقتدى الصدر المزايدة على زعماء التيارات الأخرى الموالية لإيران مؤكّداً أن لا مجال لمنافسته في أي مجال من المجالات؟

ثمّة آمال كبيرة معقودة على مقتدى الصدر الذي استطاع اتخاذ موقف وطني لا غبار عليه. تصدّى للمدّ الإيراني في العراق وذلك عبر رفضه للميليشيات المذهبيّة ولكل ما يمثّله نوري المالكي، رئيس الوزراء السابق الذي تسبب بكلّ أنواع الكوارث للعراق. تسبّب المالكي بإفلاس عراقي في كلّ المجالات، خصوصاً بعد سماحه لإيران بالاستفادة الى حدّ كبير من ثروات العراق في وقت كان فيه سعر النفط مرتفعاً. إضافة الى ذلك، لا يمكن تجاهل دور المالكي في كارثة مدينة الموصل، ذات التاريخ العريق، التي سيطر عليها “داعش” في العام 2014 في ظلّ حالة ضياع سادت الجيش العراقي. لم يستعد هذا الجيش المبادرة إلّا بعد خروج المالكي من موقع رئاسة الوزراء لمصلحة حيدر العبادي ثمّ مصطفى الكاظمي الذي عمل بالفعل من أجل قيام جيش قويّ. مثل هذا الجيش لا يمكن إلّا أن يخدم مصلحة العراق الساعي الى إثبات أنّه ليس جرماً يدور في الفلك الإيراني من جهة وأنّ ليس في استطاعة “الجمهوريّة الإسلاميّة” نقل تجربتها الفاشلة الى البلد الجار. ليس سرّاً أن إيران تسعى بكل ما تستطيع ليكون “الحشد الشعبي” الذي يضمّ ميليشيات مذهبيّة تابعة لها بمثابة “الحرس الثوري” في العراق. معنى ذلك أنّه يفترض في الجيش العراقي أن يكون تابعاً لـ”الحرس” كما الحال في “الجمهوريّة الإسلاميّة” التي ترى في العراق امتداداً حيوياً لها لا أكثر ولا أقلّ.

من حسنات الجلسة الأولى لمجلس النواب العراقي كشفها لمدى الإرباك الإيراني. حاولت الأحزاب المواليّة لـ”الجمهوريّة الإسلامية” المناورة. فعلت ذلك من طريق طرحها أنّها تمثّل “الكتلة الأكبر” في مجلس النواب. أي أنّ من حقها تسمية رئيس الوزراء الجديد. لم تمرّ تلك المناورة على أحد. الدليل انتخاب محمّد الحلبوسي رئيساً لمجلس النواب نتيجة توافق بين جماعة مقتدى الصدر والأكراد والسنّة. ليس مستبعداً أن ينسحب ذلك على اختيار رئيس الوزراء المقبل. لكنّ ذلك لا يمكن أن يحول دون الاعتراف بأنّ على مقتدى الصدر الرافض للميليشيات المذهبيّة والداعي الى أن يحتكر الجيش العراقي السلاح أن يقرّر ما الذي يريده بالفعل. هل يمكن للرجل أن يتغيّر وأن يتصالح مع الحداثة وأن يعي أن الاكفان شيء والحياة الديموقراطية والبرلمانية شيء آخر؟

كلّ ما يمكن قوله إنّ العراق، عاد مصطفى الكاظمي الى موقع رئيس الوزراء أم لم يعد، في وضع لا يحسد عليه. هناك تدهور مستمرّ للمجتمع منذ العام 1958 يحتاج الى وضع حدّ له. يصعب ذلك على الرغم من وجود نواة حقيقية في المجتمع العراقي متصالحة مع كلّ ما هو حضاري في هذا العالم. ليس معروفاً ما اذا كانت هذه النواة، التي انتفضت في وجه الفساد والمحاصصة المذهبيّة وفي وجه النفوذ الإيراني منذ ما يزيد على عامين، تستطيع أن تفعل شيئاً غير التظاهر والصمود في وجه الاغتيالات. الأكيد أنّ مهمتها لن تكون سهلة بوجود كلّ هذا التخلّف المتراكم. مثل هذا التخلّف نتيجة ممارسات للأنظمة التي توالت منذ 1958، بدءاً بعبدالكريم قاسم وعبد السلام عارف… وصولاً الى صدّام حسين، مروراً بجنون علي صالح السعدي الذي يعبّر أفضل تعبير عن تخلّف حزب البعث وحقيقة فكره. الأكيد أيضاً أنّ مهمّة النواة الصالحة في العراق ستزداد صعوبة بوجود الارتباك الإيراني. ليس لدى “الجمهوريّة الإسلاميّة” ما تصدره الى العراق سوى الفوضى والميليشيات المذهبيّة التي ترى فيها رأس الحربة لمشروعها التوسّعي الذي تحوّل العراق، في ظلّ التخلّف الداخلي الذي يعاني منه، الى ضحية من ضحاياه، تماماً كما حال لبنان…

 

Back to top button