الحلو ما يدوم
بقلم: أحمد الصراف
النشرة الدولية –
كنت ولا أزال من محبي الأطعمة الحادة، الغنية بالتوابل والمحسنات الحارة، والمصحوبة غالباً بالطرشي، أو المخللات، والبصل، وغير ذلك. وكنت، ولا أزال، مغرماً بتناول الحلويات في كل الأوقات، ولكن بالذات بعد وجبة دسمة، وغالباً «بعذر» التغلب على طعم الخل والبصل والتوابل في الفم.
***
في منتصف سني مراهقتي تركني والدي في الصيف لأدير المحل، مع من فيه، وسافر مع والدتي وبقية أخوتي، بعد أن أعطاني مبلغاً كبيراً نوعاً ما، مصروف جيب للصيفية.
ذهبت في اليوم التالي لمحل أشكناني للحلويات الذي كان يقع في الشارع الجديد (لاحقاً، شارع عبدالله السالم)، المقابل لمحال الغربللي الواقعة في نهاية شارع فلسطين، وقضيت وقتاً رائعاً وأنا في قمة السعادة أقلب في الكم الهائل من الحلويات التي وجدت نفسي بينها، وأنا في حيرة في ما يجب أن أختار «من كل ما لذ وطاب وما يسيل اللعاب»!
خرجت من المحل، ونظرات صاحبه تلاحقني فضولاً أو شفقة من ثقل محتويات الكيسين الكبيرين، اللذين ربما قارب وزنهما وزني أو أكثر قليلاً، ولحسن الحظ لم يكن محل الوالد بعيداً.
***
أفرغت بسعادة لا توصف محتويات كيسي الشوكولاتة في البيت على أرض الديوانية الكبيرة، وبدأت بتصنيفها حسب اللون أولاً، ثم أعدت تصنيفها حسب درجات لهفتي لالتهامها، وأعدت توزيعها للمرة العاشرة حسب حجمها، ولكن في النهاية وضعتها في مجموعتين، تلك المصنوعة من الكاكاو الخالص فقط، والأخرى المحشوة بالبندق أو اللوز!
لا يزال بريق كومة الشوكولاتة وألوانها الزاهية في ذاكرتي بالرغم من مرور ما يقارب الستين عاماً، وكانت لحظات حلوة رائعة مع كل ذلك الكم الهائل منها، بأشكالها وألوانها ومحتوياتها ورسوماتها، وجميعها مغرية تنادي من يلتهمها كلها دفعة واحدة!
كبّرت عقلي، فالأمر لم يكن سهلاً ولا بسيطاً، وقررت أن أقتصد، وألا أتناول إلا نصف واحدة، أو أقل من ذلك، في اليوم، وهذا سيتيح لي الاستمتاع بها العمر كله بسبب كميتها التي بدت لي كبيرة جداً حينها، وربما لن تنتهي أبداً!
***
يقال إن شاعرَي العراق الكبيرين «الزهاوي» و«الرصافي» تصادف جلوسهما متقابلين في وليمة وضعت فيها أمامهما صينية تحتوي على الثريد وفوقه دجاجة محمرة، بعد قليل مالت الدجاجة ناحية الزهاوي، فقال: عرف الخير أهله فتقدّم.
لم يمهله الرصافي طويلاً، وعاجله بعجز البيت التالي: كثر النبش تحته فتهدّم!
وهذا ما حدث معي ومع منجم الشوكولاتة الذي كنت أخبئه تحت سرير نومي، في كرتونة واسعة ومسطحة، حيث كنت أستلقي على السرير، وأدس يدي داخل كومة الشوكولاتة لاختار، باللمس، «ما لذ وطاب منها»، وخلال شهر، وقبل عودة أهلي من السفر، انتهى المخزون تماماً، وكنت أظن أنها ستكفيني بقية العمر، وربما لهذا يقولون: «الحلو ما يدوم»!
***
هكذا هي أيام العمر، تبدو لنا جميلة وبراقة، أو تعيسة ومحزنة، ولكن كل يوم يختلف عن غيره، بطوله أو قصره، بحلوه أو مره، أو بلونه وشكله، بفرحه أو ألمه، يوم بالكاكاو، والثاني بالكراميل، والثالث بالسكر مع جوز الهند، والرابع والخامس بالبصل والثوم والفلفل، وربما التبن!
ومن فرط سعادتنا، أو تعاستنا، وانشغالنا بالطفولة ثم الدراسة وبعدها العمل والزواج والأولاد، يمر العمر سريعاً، وتقارب الحياة على الانتهاء، مع بلوغنا الشيخوخة، ونحن الذين كنا نظن أن العمر باق للأبد، وأن أمامنا عشرات آلاف الأيام ومليارات الساعات، ولكنه ينتهي كما انتهت قطع الشوكولاتة التي كنت أعتقد أنها، بسبب كميتها الكبيرة، لن تنتهي أبداً!
***
تقول فيروز:
يا دارة دوري فينا ضلي دوري فينا تاينسو أساميهن وننسى أسامينا
تعا تا نتخبى من درب الأعمار وإذا هني كبروا نحنا بقينا صغار
وسألونا وين كنتوا….. وليش ما كبرتوا أنتو…… منقلن نسينا
واللي نادى الناس…. تيكبروا الناس……. راح ونسي ينادينا