وداعا للتعليم
بقلم: سعد بن طفلة العجمي

لقد فعلت الثورة التكنولوجية فعلها في التباعد والعمل عن بعد وستختفي تخصصات وتزدهر أخرى

النشرة الدولية –

عملت بالتعليم لأكثر من 35 عاماً -متقطعة، وقبلها وأثناءها قضيت سنوات طويلة من الجلوس على مقاعد التعليم الحضوري التقليدي، تراوحت تلك السنين الدراسية والتدريسية مكاناً وزماناً، بين الكويت وفرنسا وأميركا وبريطانيا. وأعترف بأنني من جيل في طريقه للانقراض، ذلك أنني من الجيل الذي ولد وتعلم وعمل سنين طويلة قبل الثورة الرقمية، وعشت العقدين الأولين من هذه الحقبة الرقمية (2000-)، ولا يعلم إلا الله كم بقي لي من العيش في حقبة الثورة الرقمية، التي يرى الخبراء أنها ما زالت تحبو في بداياتها، وبأن ما نشهده من تحولات رقمية في حياتنا اليوم ما هو إلا نزر يسير مما ستشهده البشرية في العقود المقبلة. لكن الأكيد أن رحيل جيلي المخضرم يعني نهاية من عاشوا قبل الثورة الرقمية، فمن عاش قبل الثورة الصناعية مثلاً لن يعود، ولم يكن هناك إنسان عاش قبل الثورة الصناعية وبقي بعدها طويلاً.

التحولات الكبرى بسبب الرقمية والذكاء الاصطناعي في حياتنا، أحدثت تغييرات هائلة في مناحي الحياة كافة، ولعل أكثرها وضوحاً في النواحي التعليمية، فلم يبق التعليم اليوم كما كان قبل اختراع التكنولوجيا اللوغارتمية (الخوارزمية)، فمثلما صار كثير من العمل يتم عن بعد وبسبب الجائحة، أدخلنا التعليم عن بعد، وهذا التحول بحد ذاته يعني إلغاء- وإن ظننا بأنه موقتاً- للتعليم الحضوري التقليدي الذي مارسه الإنسان منذ مئات السنين. كان التعليم في الماضي يتم من خلال مرافقة ومتابعة العلماء ومجالستهم والاستماع إليهم، ثم تطور ليكون مراحل دراسية يعطى الطالب شهادة بعد إنهاء كل مرحلة منها. وتستمر الدراسة التقليدية للحصول على شهادة جامعية ما يقارب 16 عاماً- تزيد أو تنقص بحسب التخصص.

إن النظام التعليمي الحضوري التقليدي في طريقه للاندثار، ولا مناص من التحول الراديكالي في النظم التعليمية بفعل وتأثير الثورة الرقمية والذكاء الاصطناعي. فلن يكون الحفظ مطلوباً، فلماذا تحفظ قصيدة وأنت يمكن أن تقرأها أو تستمع إليها بضغطة زر؟ ولماذا تحفظ جدول الضرب والحاسبة بهاتفك الذكي تستطيع أن تضرب الملايين بالملايين وتعطيك النتيجة بجُزَيئٍ من الثانية؟ ولماذا تحفظ المناخ الاستوائي والمناخ في شرق آسيا، والسيد “غوغل” يعطيك درجة الحرارة بأي مكان بالعالم؟ ولو سألت طالباً اليوم عن عاصمة السلفادور لسأل السيدة “سيري”.

إن العلوم والمعارف الإنسانية لم تعد بحاجة للدراسة والتدريس، وكل ما تحتاجة هو التعريف بهذه العلوم بمدخل يدخل الطالب- إن شاء ورغب- إلى عالم تاريخ أوروبا أو الصين والهند مثلاً، وسينحصر تعليم التاريخ على مقرر أو مادة واحدة تعزز بُعداً تاريخياً وطنياً يتعلق بالهوية وحسب، وعلى من يرغب بالاستزادة في معرفة تاريخ الآخرين أن يدخل لعالم الإنترنت الذي سيعطيه ما يشاء بحسب برمجة ذلك الجهاز.

لقد أصبح الإنترنت حقاً من حقوق الإنسان في بعض الدول كفنلندا، وعلى ذكر فنلندا: هناك نقاش تربوي حول جعل تعليم الكتابة بالمدارس شيئاً اختيارياً.

اخترع الإنسان الكتابة قبل آلاف السنين لحاجة ملحة بتسجيل وأرشفة المعرفة الإنسانية، وقد انتفت الحاجة لذلك الاختراع اليوم، تماماً مثلما انتفت الحاجة للطباشير وللفاكس والبيجر وكاميرا بولارويد والطباعة اليدوية وأشرطة التسجيل والأسطوانات والفيديو (في أتش أس) والساعات والأقلام وآلاف المخترعات التي تلاشت بتراجع الحاجة لها، وقديماً قيل: الحاجة أم الاختراع.

إن من ينظر في خط الطلاب اليوم من المعلمين من جيلي، يفغر فيه ويمط شفتيه ويرفع حاجبيه ويغمض ويفتح عينيه من هول ما يرى، لأن جيلي لا يستوعب أن الطلبة لا يستخدمون القرطاس والقلم بالكتابة، ولا يكتبون الواجب عشر مرات عقاباً لمن قصّر في أداء واجبه، ولم تعد هناك حصص للخط العربي، فهم يكتبون بالأزرار ولا يحملون الأقلام، والسبب أنهم ليسوا بحاجة للقرطاس والقلم، ولا يرون دافعاً لتعلم الكتابة والخط، فالأزرار تقوم بذلك دونما الحاجة للقلم، بل إن الأجهزة الذكية تقوم بتحويل ما يكتبونه من طلاسم إلى أحرف مطبوعة فاخرة وبأي خط يشاؤون- رقعة، نسخ، كوفي، وبتنصيص TEXTUALIZATION  ما يقولونه شفاهة وتحويله مكتوباً، فلماذا يحملون القلم ولماذا يسطرون؟

لقد شتّتتْ التكنولوجيا الحديثة تركيز التلاميذ، وأحدثت ما أسماه خبير التركيز لدى الأطفال جويل نيغ بثقافة مرض اللاانتباه AN ATTENTIONAL PATHOGENIC CULTURE، كما تظهر الدراسات أن طلبة الجامعات يركزون على فكرة ما لمدة متوسطها 65 ثانية فقط، ويؤدي التنقل بين وسائل التكنولوجيا بالإعلام الحديث لدى المراهقين لما أسماه بروفسور علم الأعصاب بمعهد ماساشوسيتس للتكنولوجيا- إيرل ميلر- بالتراجع أو الانهيار الإدراكي COGNITIVE DEGREDATION . لكن من يدري، فقد تتحور وتتطور القدرات الذهنية لدى الإنسان لتستطيع التعامل مع أفكار متعددة في آن واحد بدلاً من الفكرتين، التي يستطيع إنسان اليوم أن يتعامل معهما في وقت واحد كحد أقصى! لعل كلمتي التحور والتطور هي أكثر الكلمات بغضاً لدى الناس هذه الأيام.

إن التعليم يمر بمراجعات جذرية من ناحية سنوات الدراسة التي ستختزلها التكنولوجيا بإلغاء بعض المواد الإنسانية أو دمجها، واختصار سنوات التعليم بالتخلي عن منهجية التلقين والتحفيظ كلياً، والتركيز على تعليم أدوات المعرفة واستنباطها واستخراجها، ونسف النظم التقليدية بالتقييم والامتحان والإجازات واختبارات الذكاء والشهادات الدراسية.

لقد فعلت الثورة التكنولوجية فعلها في التباعد والعمل والتعليم عن بعد، وستختفي تخصصات وتزدهر تخصصات معظمها سيكون مرتبطاً بالعلوم الرقمية واللوغاريتمات والذكاء الاصطناعي حيث سيكون مستقبل البشرية.

ستصبح هذه التوقعات شيئاً من الماضي، وقد تكون هراء لا معنى لها بعد ثلاثة عقود أو أقل أو أكثر، لأن من كتبها معلم مخضرم عاش وتعلم وعلّم قبل الثورة الرقمية، أي أنه عاش بالقرن الماضي، بل إنه ولد وتعلم وتخرج وعمل بالألفية الماضية، أي قبل ألف عام مما يعدون، ولم يكن يدرك أين سيتجه التعليم وما آل إليه بعدما رحل وجيله وغادروا هذه الدنيا.

 

زر الذهاب إلى الأعلى