الجزء الاول من العشوائية… 60 ما الذي يُبْقيكُما معا؟!
النشرة الدولية –
الدكتور سمير محمد ايوب –
لا شيء في الخارج، يمنح روحك العافية، كما تفعل الرحلات الداخلية العشوائية، او المقننة حتى. ولكنأكثر طرق تلك الرحلات مشقة، هي تلك التي يعبرها المرء ليلا، عائدا الى ضجيج نفسه المتلقية، لوما أو طمأنينة. وشوشات ما بعد منتصف الليل كهدوئه، مختلفة في العادة عن باقي الأوقات، فهي الأكثر إثارة لذاكرة مساقاتها طويلة، تعجُّ بأسئلة حائرة رجراجة التأويل.
بعد أسبوع من اضطرارها للسفر وحدها، لعيادة والدتها في عكا، تمَلْمَلَتْ نفسيَ المُعتادة على أن يكون لها من همسِها ولمسِها، قبل أن تُغمِض عينايَ نداءٌ حَيِيٌّ، ومع تَفَتُّحها وشوشاتٌ من عطرها الجوري السخيّ.
وبعد اسبوعين من تحمُّلٍ فاق طاقتي، أحسست باختناق ضاغط. ودون أن أشعرتغيّرَت نفسيتي. صرتُ لا أشتهيَ شيئا، سوى عزلةٍ هادئة أتوه معها في البعيد.
وما أنِ انتصف ليل أول أيام الأسبوع الثالث لسفرِها، وقد اكتمل بدره، تمرَّدَت نفْسيَ اللوامة، وكعادتِها بدأت روحيَ رحلة الضياع الليلي اللذيذ. وتذكرتُ أنّ في مغاريبِ السلط جبالٌ تُعانق الغيوم، في أعاليها استراحة فندقية تشع أنوارُها وتَتمدّد نحو الغربِ المُطلِّ على غَورِ الاردن واريحا ونابلس والقدس، ونحو الشمال المُطلِّ على قلعة عجلون وجبل الشيخ. مستظلا نور البدر ركبت سيارتي. وقررت أن أفاجئ مالِكَه ومديره، صديقي ورفيق الشباب، وزوجته الثالثة وهي من محيط نابلس.
فور وصولي الاستراحة، تسلَّقْتُ عتباتَها برشاقة، استغرب صديقي الذي كان ما زال ساهرا حين وصلت، وجودي وحيدا. شرحت له الأمر على عُجالة. ونحن نجلس على شرفة بانورامية، تلفَّت حولَه كمن يخشى شيئا خفِيّا، قبل ان يقول بشيء من التردُّد المُحبّب:
وقد التقينا الآن هنا، لأول مرة في خلوة كهذه، أسألك وأنا أُدْرِكُ أنْ لا أحد يأخذ مكان أحدٍ، ولا حتى دَورَهُ في قلبٍ كقلبِكَ، أنيقٌ في اختياراته وانحيازاته، أعرِفُها وأعرف أنها حبّك العتيق، وأعرف أنَّ منَ أصعب الأمور على مُتَكتِّمٍ مثلَك، الثرثرة عن غيرالمرئي فيمَن يُحِب، ولكن موقِعُنا منْ بعضٍ لعشراتِ السنين، يشفعُ لِمُتطفل مثلي أن يَسألَك: إنْ أردتَ الحديثَ عنها، فماذا تًحبّ أن تقولَ عمّا أبقاها كلّ هذا الزمن فيك، رغم كلّ العابرات دامَتْ واستدامت، أزْهرَت وأثمرَت، وأخالك لو خُيَّرتَ ثانية، تَشتَهي أنْ تُحبَّها من جديدٍ، وأكثَر؟!!!
قلتُ مبتسما وأنا أحتضن فنجال قهوتي بكلتي يدي، وامعن النظر في عبقه المتصاعد الى انفي: لا تستغرب اذا ما أخبرتك أنَّ الثرثرة في شكل ومضامين الروابط بينها وبيني، متاهة يطول فيها الكلام. ولكنَّ خيطا يَنظمها كخيط السبحة، سمه ما شئت، توادّا، تراحُما، تفاهما، اهتماما، تسامحا، رضا أو كلّها معا، لا بأس ففي المُحصِّلة، لن تبتعد كثيرا عن الحق والعدل.
ولكني، وأنا أعلم انّ المواقف هي التي تزرع بنا أناسا، وتقتلعُ مِنا آخرين، لا أدري إن أردتُ أن اقولَ، بأيِّ المَواقف أبدأ، لأقبض على لحظة الولادة. ولكن تأكَّد أنها لم تكن عابرة، ولم يكن حبّا من نظرة أولى، بل تفاهمَ أرواحٍ من الدرجة الاولى. فالأرواح كما تعلم يا صديقي كالطيور، لا تهبط إلا في الأمكنةِ التي تشعر فيها بالأمان.
( للحديث بقية …… )