الشعوب العربية.. رهان الغرب أم روسيا والصين؟
بقلم: د. نادية عويدات

النشرة الدولية –

في الحرب الروسية الغربية الدائرة الآن، من الحكمة أن ترى الشعوب والنخب العربية الخيار الأنسب لها، بين قوى تسعى لاستعباد البشر أجمعهم وأخرى بالرغم من ماضيها الاستعماري وشركاتها الرأسمالية الجشعة التي لا هم لها سوى جمع الأموال، إلا أنها تحتوي آلافا، أن لم يكن ملايين الأفراد الذين يعملون جاهدين ليل نهار وبأشكال عدة؛ كالعمل بمنظمات حقوقية ومدنية وبحثية، إلخ، لخلق عالم أكثر عدالة.

 

يجب أن تدرك شعوبنا أن غرب الأمس ليس هو نفسه غرب اليوم، أو ربما الأجدر أن نقول أن هناك غربين يتقاسمان نفس البقعة الجغرافية. إن شعوبنا التي يتم قهرها يوما بعد آخر ستكون الخاسر الأكبر في عالم يُروج بأنه سيكون “متعدد الأقطاب” لو فازت روسيا والصين على أرض الواقع، ولكننا نعي أن عالما تكون الصين وروسيا فيه ذات قوة تهدد العالم الديموقراطي الغربي هو عالم ستسوده انتهاكات أكبر لحقوق الإنسان، وعالم أقل قدرة على مساندة قوى اللاعنف حول العالم.

 

إذا أردنا حلولا عادلة لمشاكل العالم المتفاقمة، فالعالم الغربي، بكل مساوئه، هو وحده على المسرح الدولي الذي يستطيع نشطاء حقوق الإنسان واللاعنف والديموقراطية وحماية البيئة من داخل أراضيه أن يساهموا في حل هذه المشاكل للبشر جميعا. فهم وحدهم من يضغطون لخلق منظومة دولية أكثر إنسانية. وبسبب عمل هؤلاء، تكاد تكون الدول الغربية الوحيدة التي تصرف مليارات الدولارات على اللاجئين من دولنا وعلى مشاريع التنمية حول العالم، نادرا ما يتم ذكرها في أخبارنا إلا عندما تُذكر في إطار التكفير والتخوين، رغم انعدام وجود دولة مسلمة غنية واحدة توازي هذا الاستثمار.

 

في جميع انحاء هذا الغرب الذي لا تريد حكومتنا العربية أن نرى فيه غير الماضي الاستعماري، تستطيع الأقليات أن تكون جزءا من السياسات الداخلية والخارجية لدرجة لا يحلم بها مواطن عربي في بلاده، فما بالك في بلاد “شقيقة.” الدول الغربية وحدها تحوي أقلية فاعلة من ملايين البشر من أرجاء المعمورة وفي دول كثيرة في مقدمتها أميركا، سوف تكون هذه الأقليات خلال عقود قليلة هي الأغلبية، مما سينعكس على السياسات الخارجية والداخلية.

 

الآن في زمن كتابة هذا المقال، يجلس عدة أشخاص من أصول عربية في الكونغرس، بما فيهم رشيدة طالبي ذات الأصول الفلسطينية وإلهان عمر ذات الأصول الصومالية. فهل توجد دولة أخرى غير غربية تستطيع فيه امرأتان مهاجرتان من العالم الإسلامي المساهمة في وضع قوانين أقوى دولة في العالم؟ ناهيك عن النخب الغربية التي تعمل لصالح شعوبنا من داخل أروقة الجامعات ومنابر السياسة. خذ على سبيل المثال الأستاذة الأوروبية كاليبسو نيكيليدس ذات الأصول الفرنسية واليونانية، والتي حصلت على الدكتوراة من جامعة هارفرد الأميركية وتعمل منذ أكثر من عقدين من الزمن في جامعة أوكسفورد في كلية سانت انتونيز، حيث قامت بعدة برامج لتوعية طلابها بالماضي الاستعماري لأوروبا، ولكن الأهم هو جهودها المضنية للتأثير على قوانين الاتحاد الأوربي ليصبح أكثر ترحيبا بالمهاجرين واللاجئين. هذا التعاطف ظاهر أيضا في حياتها الخاصة بفتحتها الدائم بيتها للاجئين من حول العالم، وتسعى الآن لإيجاد طريقة للمساهمة شخصيا وبشكل تطوعي في تعليم العديد منهم مجالها المهم وهو العلاقات الدولية. في نفس الكلية، ينشر الكاتب الإسرائيلي من أصول عراقية، آفي شليم، كتباَ ومقالات مدافعا عن حق الفلسطينيين ومهاجما دولة إسرائيل. ولا يفوتني أن أشير هنا بأنه قد تم مؤخرا حجب مقالات البروفيسور شليم في دولة عربية خليجية بسبب نقده لمعاهدة السلام الإبراهيمية والتي يرى فيها خيانة للفلسطينيين. هل يمكن لأمثال هؤلاء أن يكون لهم نفس الحريات أو التأثير لتحدي القمع الدولي والتأثير على أجيال من الطلاب لو كانوا في الصين أو روسيا؟ نحن بحاجة لمساحات أكبر تحوي أمثال هؤلاء وليس تقليص هذه المساحات لصالح مزيد من القمع.

 

لطالما كانت شعوبنا مطلعة على الأجندة الحقيقية للحكام العرب مما يفسر سرعة نزوح الملايين للشوارع أثناء الربيع العربي. يجب على الشعوب والنخب الآن ألا تسمح لهذه الأنظمة أن تتلاعب بها مجددا، هذه المرة بمساعدة قوى خارجية. ولذا فلا يمكن أن نراهن على قوى تقوم أصلا على قمع شعوبها (فروسيا تحكم بالسجن خمسة عشر عاما على من يصف حربها على أوكرانيا بـ “الحرب ” أو من تراهم لا يتمتعون بالولاء الكافي لبوتين بينما تقوم الصين بسجن وتعذيب الملايين من سكانها المسلمين) ولذا فأي رهان على هكذا دول إنما هو رهان لنشر نوع جديد من القهر والاستعباد.

 

نقر دون شك بأن الماضي الاستعماري حقيقي وذو ضريبة عالية على شعوبنا، لكننا نعيش الآن تحديات من نوع جديد لا سابق لها مما يجعل التركيز الحصري على الماضي الاستعماري من قبل جهات مختلفة حق يراد به باطل، بالإضافة لكونه قراءة مغلوطة لأحداث الساعة لأن غرب اليوم يختلف عن غرب الأمس. الملايين من العرب والمسلمين يعيشون بل يساهمون في سياسات تلك البقعة الجغرافية الوحيدة التي يُسمح فيها لهذا الكم الهائل من المهاجرين بمساهمة فعالة في شؤون العالم. إن روسيا التي تقوم بحملات هائلة من الدعاية ضد الغرب هي نفسها بلد توسعت حدوده بالعنف. لكن بعض الحكومات العربية بمساعدة قوى القهر العالمية المتمثلة بالصين وروسيا تريد إبقاء الحوار مسلطا على الماضي الاستعماري للغرب فقط، لا لأنها ضد إخضاع الآخرين قسرا، بل لأن التركيز على ذلك يخدم مصالحها.

 

في العقود القليلة الماضية، رأت روسيا في الأفكار الديمقراطية تهديدا يكاد يكون هيستيريا مما دفعها لرؤية كل من يحاول نشر الأفكار الليبرالية والديموقراطية سواء كان بين مواطنيها مثل الكسي نوفلني أو بين مواطني دول العالم، بما فيه عالمنا العربي، كخطر يجب إزالته وأحيانا تنجح فعلا بإقناع البعض أن الديمقراطية وحقوق الإنسان تؤدي للتدهور وعواقب اقتصادية سيئة.

 

لروسيا حلفاء حتى في الغرب أمثال جوليان أسانج والذي عمل لمحطة الدعاية الروسية “روسيا اليوم” والذي يبرر أفعاله بتسريب معلومات خاصة بأنها “دعم للشفافية.” المثير للشبهة أن المستفيد الأكبر من تسريبات أسانج هي الجهات السلطوية، فيما ركزت تسريباته على التلاعب بمعلومات أحيانا بريئة لتجريم نشطاء المجتمع المدني وحقوق الإنسان في العالم العربي. أي شفافية هذه التي يكون المستفيد الأكبر فيها دولة قمعية كروسيا وداعمي القمع السياسي المحلي؟! إذا كان أسانج حقا مهتما بالشفافية، أما كان الأجدر به أن يحارب من أجل هذه الشفافية من داخل الاتحاد الأوروبي حيث يتمتع المواطنون بأكبر قدر من الحريات لتحدي شركات التواصل الاجتماعي على مستوى العالم؟

 

يظهر للعيان الأن أن روسيا لم تستهدف العالم العربي فحسب، بل دولا عظمى أيضا مثل أميركا وبريطانيا حيث ساهمت فعليا بانتخاب دونالد ترامب، الذي كرر أحيانا كثيرة أكاذيب موسكو مثلما فعل عندما ادعى أن أوباما ووزيرة خارجيته هيلاري كلينتون هما من اخترع داعش. وفي حالة بريطانيا، كما فصلت الكاتبة المشهورة آن أبلبوم في كتابها “غروب الديموقراطية” Twilight of Democracy، فإن الحملات الروسية ساهمت مساهمة كبرى في عزل بريطانيا عن الاتحاد الأوربي بنشر أكاذيب تشمل أن بريطانيا سوف تحصل على مليارات الدولارات عند تركها الاتحاد الأوروبي، والعكس تماما هو الصحيح. فمنذ تركها للاتحاد ترك ملايين المهاجريين الأوروبيين بريطانيا واقتصاد هذه الأخيرة يعاني بشكل غير مسبوق حيث يخسر التريليونات من الجنيهات الإسترلينية كل سنة كما تقلص الاقتصاد بنسبة أربعة بالمائة، هذا بالإضافة لأزمة ندرة الأيدي العاملة والتي لا تزال بريطانيا غير قادة على حلها مما تسبب بتعثر نمو الأعمال وتعطيل الرحلات ومشاكل أخرى لا حصر لها. لماذا تريد روسيا أن تعزل الدول عن بعضها البعض؟ ببساطة لأن العزلة هي من أهم ركائز دمار اقتصادات الدول وتخلف انتاجها مع مرور الوقت.

 

في يومنا هذا، وباستثناءات مهمة جدا أبرزها القضية الفلسطينية، معظم العرب والمسلمين ليسوا ضحايا استعمار خارجي، بل الخطر الأعظم عليهم هو فوز قوى القهر، سواء كانت محلية أو دولية. منذ عقود وإلى حدود اليوم يتموضع العالم الإسلامي فوق إرث شاسع من الثروات كان يمكن استثمارها في الغرب لنصرة قضايا العالم العربي ولدعم حملات انتخابية لمرشحين مثل رشيدة طالبي. وكان يمكن أن تترجم هذه الثروات إلى مستوى حياة نزيهة لجميع أفراد العالم العربي على غرار مستوى المعيشة في الدول المتقدمة، ولكن الذي يحول دون ذلك ليس هو الاستعمار وإنما الحكام العرب والمسلمين أنفسهم الذين يستثمرون ثروات أوطانهم لتكريس القهر والفساد ومنع الديموقراطية. تنافس اليوم أفعال الحكام العرب المسلمون مستعمري الأمس؛ فهم من يسحقون رئات أطفالنا بالغازات السامة ويقومون بإبادة جماعية لمواطني دولهم أو مواطني دول مجاورة بكل استهتار لحرمة الروح الإنسانية.

 

لهذا كله وفي غمار هذه الحرب الدائرة الآن، ينبغي على الشعوب العربية أن تكون أذكى من أن تنساق مجددا وراء شعارات رنانة مكررة لن تعود علينا الا بالمزيد من التدهور والقمع.

عن موقع “الحرة”.

زر الذهاب إلى الأعلى