مسار أربعة “احتلالات” بعد الاستقلال اللبناني
بقلم: رفيق خوري
"لا مجال لقيام دولة فعلية مستقلة في الوطن الصغير من دون التخلص من الاحتلال الإيراني"
النشرة الدولية –
لبنان بلد صغير، لكنه ليس ضعيفاً إلا بالنسبة إلى أهل النفوس الضعيفة في الداخل وأصحاب الأوهام الكبيرة في الخارج. وقدره مرتبط بأقدار الآخرين، لكنه ليس عادياً بالقياس إلى ما تعرضت له البلدان العربية وحتى فلسطين في القرن العشرين. غزاة لبنان خلال التاريخ كُثر مثل سواه. بعد سقوط السلطنة في الحرب العالمية الأولى جاء الاحتلال الفرنسي باسم الانتداب المفروض من عصبة الأمم. وعلى مدى ثلاثة أرباع القرن بعد الاستقلال في عام 1943، تناوبت عليه وتزامنت أربعة “احتلالات أخوية ومعادية” بعناوين مختلفة. احتلال فلسطيني باسم “الكفاح المسلح لتحرير فلسطين”. احتلال سوري شعاره “وقف الحرب، ومنع تقسيم لبنان، وحماية المقاومة الفلسطينية”. احتلال إسرائيلي عنوانه “سلامة الجليل” وهدفه إخراج منظمة التحرير وسوريا وإقامة سلام مع جمهورية لبنانية جديدة. واليوم احتلال إيراني بدأ تحت غطاء “المقاومة الإسلامية لتحرير لبنان من الاحتلال الإسرائيلي”، ثم كشفت الوقائع أهدافه البعيدة.
في النصف الأول من الستينيات، بدأت العمل الفدائي من لبنان، حركة “فتح” بقيادة عبد الرؤوف القدوة الحسيني الذي اختار اسم ياسر عرفات. كان النظام السوري هو الداعم لها في البداية. وعندما سُئل مسؤول سوري كبير عن “الحكمة” وراء العمل الفدائي من لبنان بجبهته الهادئة وجيشه الصغير بدل البلدان الأكبر المسماة “دول الطوق”، كان الجواب، “لأننا نريد تغيير لبنان”. في ذلك الوقت، كانت مصر ضد “فتح” لسبب جاء في رسالة “سرية جداً” من قائد القيادة العربية الموحدة، علي علي عامر، إلى رؤساء الأركان العرب، “إن فتح حركة عميلة لحلف السنتو، وهدفها توريط العرب في حرب غير متكافئة مع إسرائيل”، ثم كان “اتفاق القاهرة” وزحام الفصائل الفلسطينية المسلحة في لبنان، وكانت حرب لبنان التي شاركت فيها المنظمات الفلسطينية إلى جانب قوى لبنانية وجدت فرصةً لتغيير النظام في مواجهة قوى قاومت المنظمات. والباقي معروف بعدما تبدلت المواقف العربية، حيث أخرجت إسرائيل عرفات وقواته من بيروت إلى تونس، ثم أخرجته سوريا من طرابلس بعدما عاد.
سوريا دخلت رسمياً حرب لبنان عام 1976 بعد تدخلها غير المباشر عبر منظمات فلسطينية مثل “الصاعقة”، كان الدخول الرسمي باتفاق مع أميركا تولى ترتيبه الدبلوماسي جوزف سيسكو، وضمِن فيه لإسرائيل تفاهم “الخطوط الحمر”، حيث “لا قوات سورية جنوب الليطاني، ولا استخدام للسلاح الجوي والسلاح البحري”. أوضح ما قاله مسؤول أميركي لمسؤول سوري “لا تضغطوا على لبنان كثيراً، ولا تبقوا فيه طويلاً”. لكن دمشق فعلت العكس. بقيت ثلاثين سنة وتحكمت بكل مفاصل السلطة والمجتمع حتى حدثت “ثورة الأرز” بعد اغتيال رئيس الوزراء رفيق الحريري، وقررت أميركا وفرنسا إخراج سوريا، فخرجت في عام 2005.
إسرائيل اجتاحت لبنان وأخرجت منظمة التحرير. اشتبكت سياسياً مع الرئيس الأميركي رونالد ريغان الذي قدم مشروع تسوية للصراع العربي – الإسرائيلي، يضمن الانسحاب من الضفة الغربية وقيام كيان فلسطيني. رد عليه مناحيم بيغن بأن من أهداف الاجتياح البقاء في الضفة الغربية، لا الانسحاب منها. وبدأت المقاومة الوطنية ضد الاحتلال الإسرائيلي وسقوط “اتفاق 17 أيار” (مايو). لكن اتفاق دمشق وطهران أخرج المقاومة الوطنية من الساحة، وأخلاها لقوة وحيدة هي المقاومة الإسلامية التي قام بها “حزب الله”، فانسحبت إسرائيل من الجنوب اللبناني عام 2000. غير أن مقاومة الاحتلال كانت إحدى مهمات “حزب الله” الذي احتفظ بالسلاح، على الرغم من حل الميليشيات بموجب اتفاق الطائف وتحرير الأرض. وهو يهيمن على السلطة ويقاتل في سوريا ويعمل في العراق واليمن ضمن “جبهة المقاومة” التي أنشأتها جمهورية الملالي للعمل على مشروعها الإقليمي الذي عنوانه “ولاية الفقيه”. ومن هنا تشكيل “المجلس الوطني لرفع الاحتلال الإيراني عن لبنان” بمبادرة من قوى وشخصيات وطنية عابرة للطوائف، وسط مناخ شعبي ضاق ذرعاً بالهيمنة الإيرانية على القرار. فلا مجال لقيام دولة فعلية مستقلة في الوطن الصغير من دون التخلص من الاحتلال الإيراني. والوقائع في العراق وسوريا واليمن توحي بأن النفوذ الإيراني ينتقل تحت ضغط الشعوب والتطورات الإقليمية والدولية من مرحلة المد إلى مرحلة الجزر.