مغتربة في وطنَين” لليليان قربان عقل صراع الهويّة الحارق

النشرة الدولية –

“النهار” – يوسف طراد –

تنقسم أرواحنا في جسد يوّد أن يكون جسدين، ويبدأ سقم الاغتراب، حيث وضعت ليليان قربان عقل، يدها على وجعٍ قديمٍ ومستمر، وتركت له حريّة أن يصمت، أو أن يواصل أنينه، عندما سطّرت كتاب “مغتربة في وطنَين” الذي صدر حديثاً ضمن منشورات دار سائر المشرق.

ثمة ما يجعل من كتاب “مغتربة في وطنَين” كتاب الهويّة والتمرّد عليها، فهو في متنه السردي كتابان في كتاب واحد، يقف أحدهما أمام الآخر كالمرايا التي عكست زوايا الاغتراب المعتمة، إذ سعت الكاتبة إلى تجاوز مساحات الأفكار. فكان أن قتلت الحيرة قارئها، عندما اختلطت عقدة الكتاب بين حاضر وماض ومستقبل، وكشفت علاقات متشابكة مليئة بالغيرة بين مفهوم الهويّة الثابتة والهويّة المكتسبة، في تقاطع الرؤى حول مفهوم الانتماء بين الكيان المقيم والذّات المغتربة. صراع الهويّة واضح، في حواريّة مشاكسة دائمة مع المؤلّفة، يظهر هذا الصراع جليّاً من تولّد الشعور بالانتماء المزدوج بين غانا ولبنان، بالرغم من تغلّب مؤشّرات حب الوطن الأول على مؤشّرات الإختلاف، فقد ورد في الصّفحة 33 من الكتاب: “كيف يمكنني أن أعيش (غانيتي) بأسسٍ (لبنانية) خصوصاً أنّهما حضارتان مختلفتان كثيراً في بنيتهما المجتمعية والثقافية؟”.

يمكن القول أنّ السّرد خواطر واقعيّة حارقة بامتياز، كأسئلة موّجهة إلى عالم الاغتراب، تتمحور حول الهجرة ومعاناة المهاجرين من الضّياع والتمييز العنصري، وإلى أهل الوطن الأساس، تنديداً بضياع الحقوق وفقدان مقومات الهويّة: “إنها صدمةٌ ملامسة الواقع الذي اغترب عن واقعه في أخطر مشهد وطني أصبحنا فيه غرباء عن ذاتنا، في تلك اللحظة بالذات نختبر وطنيتنا ونتحدّى قدرنا عندما يؤلمنا شعورنا بأنّنا أضحينا مغتربين في وطننا” (صفحة 41).

للوطن توقٌ لرائحة البخور الخارج من صنوبر يحرس الأرض والسماء. وتحت صنوبر المنزل في الشوير -بلدة الكاتبة- تستكين رغبات الأحبّة، وترحالهم الدائم بين القلب والنّبض، وبين لبنان وغانا، فما زالت خطاهم منقوشة على صخور تعلوها الغابات، وأصواتهم تصدح على امتداد الفضاء الهارب إليهم من روائح النفايات: “كم أشتاق لبناني فيه، أتحسّسه في عناق الأهل والأصدقاء، أتنشّقه في تنهيدة صنوبرة غاضبة تكاد تختنق من روائح النفايات.” (صفحة 41).

قرع طبول الحرب في لبنان، وفحيح السياسيين، والهزائم المكدّسة على جدران الأيام، تنتظر عاصفة مصدرها الحقّ، لتهزّ عرش الحزن الدامس في الوجوه الخاوية من الملامح. في وقت تفرح البشر في القارّة السمراء، حيث لا ضوضاء لقرع الطبول، بل إيقاع يجمع سلّم الموسيقى والقبائل والأثنيات، بكرنفال الحياة. فلا غريب في غانا، حتّى ولو طوى المسافات، والحقائب بين المطارات والقلوب: “للقارة السمراء سحرها، عاداتها، موسيقاها حيث للطبول دلالاتها، تُرسل من خلال إيقاعاتها إشارات تفهمها أفراد الجماعة فتتواصل عبرها، هي لغّة الرموز تقوي اللُحمة والروابط الداخلية…” (صفحة 51). جعلت الكاتبة اليابسة جسداً، والبحر رداءً، فإذا كانت أوروبا وبهجتها الحضارية وتفوّقها بين الأمم، سرقت الحضارة من شاطئ صور، على ظهر ذاك الثور البحري، وحنون استراح على شاطئ غانا في طريقه إلى رأس الرجاء الصالح، فاليابسة لم تمزّق ثوبها، وبقي الرداء الأزرق ستراً للرّحم الذي وُلد منه الكوكب الأزرق عل شاطئ الفينيق: “بين بحر غانا وبحر لبنان تتكامل الصورة في بعدها الوجودي، هو البحر نفسه، لا لون له، لا طائفة، لا دين، لا حزب، لا عرق، لغته واحدة أحرفها من حبّ…” (صفحة 56).

لماذا يا ليليان قربان عقل، جعلتِنا حيارى، بذلك الفائض الذي كتبتِه، مستمتعين بالارتباك اللّذيذ، أمام تشتت بين وطنين. تشتت شبيه بالحبّ، ذاهباً بالصمت إلى أقصى البوح، مهيّئاً بين الوطن الأول والوطن الثاني، وبعمق الالتباس حفرةً لغرس روح المغامرة؟ وأخذنا التفكير إلى نسج أكثر من بداية قصّة لم تُروَ في الكتاب، قصّة عبورٍ خاطفٍ ذهاباً وإياباً بين وطنين، وحنين مقسوم بين أمنيتين. إنّ الوفاء الحائر بين الوطن والمهجر، كالسّلام المبني على توازن الرعب النوويّ، فاختر صفّك يا حامل الجنسيتين، ولا تحد عنه. كن لا مباليًا بأحاسيسك بجدارة، أو وفيّاً كما لو بك مسٌّ من إخلاصٍ لوطن الأرز.

 

زر الذهاب إلى الأعلى