أحافير في الحب – 60 … فجوات الذاكرة
النشرة الدولية – الدكتور سمير محمد ايوب –
إلتقيته صيف العام الماضي، في ورشة عمل معمقة عن ماهية الشيخوخة وعوارضها الزاحفة، التي تنتهي لإحداث فجوات في الذاكرة، استضافتها آنذاك جامعة إرسموس في هولندا.
لاحظت حرصه الشديد، على إبقاء جواله ممسوكا في أيٍّ من يديه، فسألته عن السبب، فأخبرني بأن شريكته البالغة من العمر أكثر من سبعين عاما، بدأتْ منذ سنواتٍ قريبة تكثر من مهاتفته، تسأله عن أشياء كثيرة. فأحس مذعورا وهو الطبيب المختص، بأن السيدة التي يُحب، قد بدأتْ تُعاني من فقدانٍ تدريجي لذاكرتها. وعزا ذلك للعلاجات التي تتلقاها، والتي بآثارها الجانبية تعجل في الإسراع بظهور أعراض فقدان الذاكرة.
إبتسم صديقي إبتسامة مُشفقة وهو يُتابع تفسيره: إنها تُعاني من بعض مشكلات الذاكرة، تنسى أين خبّأت مِشطها، أو شيئا من زينتها، أو نظارتها أو إفطارها، أو حتى دواءها. في بعض الأحيان أبكي لأجلها ومن أجلنا، لشعوري بأنني بتُّ أفقدها بالتقسيط المُمِلِّ المُوجع.
وفي بالي ضيقُ أصدقائي الذين يشفقون علي، وهم ينَبِّهونني إلى أنني أروي لهم الحكاية نفسها عدة مرات، سألته: هل تُخطئ في الأمور التي تهمكما معا .
قال: مما يخفف من وطأة ألَمي واكتئابي أنها لو نَسِيَت جُلّ الأمورغير الجوهرية، إلا أنها نادرا ما تُخطئ في الأمور التي تهمنا معا. فهي لا تنسى عيد ميلادي، أو عيد زواجنا ولا قُبْلَتُنا البربرية الاولى. وتابع بفرح يقول: وحتى لو نسيَ عقلُها شيئا، فأنا لا أنسى أين تختبئ في عقلي وفي قلبي، وفي كل مجرات حياتنا المشتركة، طيلة أكثر من خمسين عاما.
كنتُ سعيدا بما اسمع فقلت: بالطبع يا سيدي، العقل هو الأكثر هشاشة من القلب، وهو الأولى بنسيانٍ يستنزفه قبل القلب. ولا وجود لقلبٍ ينسى أين خبَّأ كنوزَه، القلبُ لا يستسلم حتى وإن اختنق، لأنالشريك الصالح كنز يُحسَد واحدنا عليه.
ولكن علينا يا صديقي، منذ تباشيرالعقد الخامس من العمر، البدء بتخيل ماهية الشيخوخة، والتيقظ لعوارضها الزاحفة، ففيها ننتهي إلى أولى فجوات الذاكرة، وعلينا التعود على هيئاتها ومواعيدها بل ومصادقتها.
وبدأت التفكير بمعايير الشيخوخة، ولكني سرعان ما نسيت أن أعراض اضطراب الذاكرة، وتداخل الرؤى، واختلاط الصور، وتدهور الوظائف المعرفية للمخ، تبدأ في العادة في منتصف اربعينيات العمر، وفي العقد الخامس منه تكتمل الصورة العدمية للمرض الذى يداهم المخ، وينزلق الواحد منا إلى موات قبل الموت، يقودنا الى انحسار العقل وضياع الذاكرة، ويسلبنا سنوات الحكمة، وحصاد المعارف وثمار العمل.