حقبة إستراتيجية جديدة قد بدأت
بقلم: د نية الحسيني
النشرة الدولية –
اعتُبر اللقاء الذي جمع الرئيس الصيني شي جين بينغ والرئيس الأميركي جو بايدن وجهاً لوجه على هامش اجتماعات قمة العشرين الأخيرة منتصف الشهر الجاري، نادراً ومحفزاً، في أول لقاء مباشر بين الرجلين بعد وصول الأخير للحكم، في ظل تصاعد أوجه المواجهة بين البلدين، وتطورات زيارة رئيسة مجلس النواب إلى تايوان في شهر آب الماضي، وما حمله ذلك من بوادر أزمة محتملة، لدرجة جعلت عدداً من المحللين الأميركيين يعتبرون بأن الحرب مع الصين أمر لا مفر منه.
وتتصدى إدارة الرئيس الأميركي بايدن بقوة للهجوم الروسي على أوكرانيا، وتقف رأس حربة لجميع القوى الغربية في هذه المواجهة مع روسيا. وتتواجه واشنطن اليوم مع كل من روسيا والصين بشكل معلن وفي وقت واحد، في سبيل الحفاظ على بنية النظام الدولي القائم بقيادتها، والذي ترفضه هاتان الدولتان وتعمل على تعديله، وذلك من خلال إجبار الآخرين على الاعتراف بهما كقوى قطبية موجودة اليوم في الساحة الدولية إلى جانب الولايات المتحدة. وتمتلك الصين وروسيا حق النقض الدولي في مجلس الأمن وسلاح الردع النووي تماماً مثل الولايات المتحدة، كما تحتفظان بالمركز الثاني والثالث عسكرياً، وتنافسان على المستوى الاقتصادي على نطاق عالمي واسع.
اختارت الولايات المتحدة، خلال الحرب الباردة، الاقتراب من الصين لمواجهة الاتحاد السوفييتي، الا انه في ظل وجود قوتين قطبيتين متنافستين اليوم، يبدو الأمر أشد تعقيداً خصوصاً مع اعتبار الولايات المتحدة للصين المنافس الأول لها، ومعاداتها الصريحة لروسيا في أعقاب الحرب الروسية الأوكرانية، بانكشاف التوجهات وتبلور التحالفات واشتداد حدة الاستقطابات.
والسؤال الذي نطرحه هنا.. كيف يمكن لواشنطن أن تواجه خصمين من القوى العظمى، يعملان على تغيير بنية النظام الدولي لغير صالحها، بدون الذهاب لحرب نووية مدمرة؟
هناك العديد من المؤشرات على أن حقبة استراتيجية جديدة قد بدأت، تتميز بالصراع والمواجهة المباشرة بين أقطاب المجتمع الدولي. ومن أهم تلك المؤشرات على هذا الواقع الجديد تلك الوثائق الاستراتيجية التي تصدر عن تلك القوى.
وتعتبر الولايات المتحدة الصين منافساً استراتيجياً لمكانتها منذ عهد الرئيس الأميركي الأسبق باراك أوباما، الأمر الذي تطلب إعادة لرسم الاستراتيجية الخارجية في عهده بالإعلان عن «الالتفاف نحو آسيا»، وهو ما التزم به من خلفوه. واعتبرت استراتيجية الأمن القومي لإدارة الرئيس جو بايدن، والتي صدرت في شهر تشرين الأول الماضي، بأن روسيا تمثل تهديداً مباشراً للنظام الدولي، في حين تمثل الصين المنافس الوحيد الذي لديه النية والقوة لإعادة تشكيل هذا النظام، وتبعاً لذلك تخطت الميزانية الأميركية الخاصة بالدفاع لعام ٢٠٢٣، ٧٧٣ مليار دولار، في تطور كمي كبير. وتعوّل الولايات المتحدة على الحلفاء الغربيين، الذين يمنحونها ميزة سياسية واقتصادية وعسكرية مشتركة تجعلها تتفوق على القوة الصينية والروسية مجتمعة. كما تعتمد الولايات المتحدة على نظام التحالفات، والذي بدأت تنسجه منذ سنوات، على رأسها بالطبع حلف الناتو، واتفاقية مشاركة تكنولوجيا الدفاع التي ضمت الى جانبها كل من أستراليا والمملكة المتحدة، والمعروفة باسم (AUKUS)، وكذلك تنظيمها لمحور أمني آخر يضم في قارة آسيا إلى جانبها أستراليا والهند واليابان. وكشف قادة حلف الناتو خلال قمة مدريد في حزيران الماضي عن توجهاتهم الاستراتيجية من خلال بيانهم المشترك، الذي تعهدوا فيه بإنفاق المزيد من الأموال لتأمين الدفاع عن القارة. واحتلت روسيا مركز الصدارة في الوثيقة الأوروبية، التي اعتبرت أن موسكو تشكل تهديدًا واضحًا لهم، وتعهدت باستمرار الوفاء بالتزاماتهم تجاه أوكرانيا. الا أن روسيا لم تمثل وحدها التهديد الرئيس لدول الحلف، فلأول مرة، وتجاوباً مع الرؤية الأميركية، اعتبر قادة الحلف أن الصين تشكل «تحديات منهجية» على أمنهم.
ويتفق صانعو القرار في الولايات المتحدة اليوم من جمهوريين وديمقراطيين على موقف بلادهم من الصين وأوكرانيا. ويدعم الديمقراطيون عموماً أوكرانيا في حربها مع روسيا، على الرغم من تصاعد بعض الأصوات الديمقراطية مؤخراً الداعية لخفض هذا الدعم، والتي تجلت في رسالة التكتل التقدمي في الكونغرس التي دعت لمتابعة المحادثات المباشرة مع روسيا لإنهاء الحرب. وحول موقف الحزب الجمهوري من دعم أوكرانيا، ورغم التوجه العام للحزب بالانعزالية وعدم التدخل في الشأن الخارجي، يدعم الجمهوريون موقف الإدارة عموماً سواء على المستوى القيادي أو الشعبي، وإن كشف التصويت الأخير في مجلس الشيوخ واستطلاعات الرأي الأخيرة انخفاض حدة هذا الدعم. كما يشير تصويت شهر تموز في مجلس الشيوخ حول انضمام فنلندا والسويد لحلف الناتو، إلى تأييد الجمهوريين للحلف والتزام بلادهم تجاهه، وهو ما يعكس أيضاً موقف جميع المرشحين المحتملين للرئاسة من الجمهوريين، باستثناء الرئيس السابق دونالد ترامب. إن ذلك ينبئ باستمرار سياسة بايدن ومن سبقوه تجاه التزامات الولايات المتحدة بحلف الناتو، باستثناء ترامب، الذي سيقود وصوله للحكم الى تغيّرات ملموسة في السياسة الخارجية.
ويتفق القادة الأميركيون من جمهوريين وديمقراطيين حول الصين واتخاذ الولايات المتحدة مواقف حازمة تجاهها، ويمتد هذا التوافق إلى الشارع الأميركي نفسه. وتفضل أغلبية كبيرة من الأميركيين اتخاذ بلادهم سياسة قوية تجاه الصين ودعماً أقوى لتايوان، حسب استطلاعات الرأي، والتي تشير أيضاً إلى اعتبار الغالبية منهم بأن الصين «عدو».
حقق شي جين بينغ الرئيس الصيني والأمين العام للحزب الشيوعي في بلده نصراً في المؤتمر العشرين للحزب، منتصف شهر تشرين الأول الماضي، الأمر الذي مكنه من الحصول على ولاية رئاسية ثالثة لخمس سنوات قادمة. في هذا المؤتمر ملأ الرئيس الصيني المكتب السياسي ولجنته الدائمة بالموالين لتوجهاته، التي حددها في هذا المؤتمر. ويعتبر شي رجلاً أيديولوجياً يؤمن بالفكر الماركسي والقومي حتى النخاع، ولا يهتم كثيراً بالفكر البراغماتي الذي أسس له الزعيم الصيني دنغ شياو بينغ قبل ٤٤ عاماً، والذي حمل عهده شعار «الإصلاح والانفتاح»، وقرب الصين من الممارسات الاقتصادية الغربية. وركز شي خطابه في المؤتمر على القومية الصينية والأمن القومي، في ظل تأكيده على وجود وضع دولي حالي خطير ومعقد، داعياً لضرورة الاستعداد للأخطار القادمة والتي وصفها بـ «العاصفة الخطيرة». يدعم ذلك تصريحات سابقة له أكدت على ضرورة وجود أجندة أمنية شاملة أيديولوجية وسياسية واقتصادية واستراتيجية. واعتبر شي في خطابه أن استعادة تايوان أمر بالغ الأهمية بهدف تجديد شباب الصين الوطني، والذي يسعى لإنجازه عام ٢٠٤٩ في الذكرى المئوية لتأسيس جمهورية الصين الشعبية. ورغم ذلك لم يضع شي جدولاً زمنياً لاسترجاع تايوان، الا أن الإنفاق الصيني على الجانب العسكري بلغ ذروته باقترابه اليوم من ٢٣٠ مليار دولار، ثاني أكبر ميزانية عسكرية بعد الولايات المتحدة، الأمر الذي يتفق مع خطاب شي ويدق ناقوساً للخطر.
تُسخّر روسيا جميع أدوات القوة التي تملكها لتحقيق أهدافها في أوكرانيا، خصوصاً وأن النخب الروسية ترى أن هذه الحرب تأتي للحفاظ على الذات وليست من أجل التمدد، والانطباع السائد بتكالب جميع القوى الغربية ضد روسيا، وهدد بوتين بتخطي العتبة النووية إن أُجبر على ذلك في هذه الحرب. ويدعو مسؤولون أميركيون للاعتراف بتايوان دولة مستقلة ذات سيادة، الأمر الذي سيجعل الحرب مع الصين حتمية.
إن محاولات واشنطن الاحتفاظ بنظام دولي بقيادتها وبدعم غربي لا يعطيها الحق بالمخاطرة بأرواح ملايين من البشر، خصوصاً وأن انهيار المنظومة الدولية يتوقف اليوم على سياساتها. إن وصول العالم لحرب نووية، وهو سلاح وجد في الأصل للردع لا للاستخدام، لا يعد في مصلحة النظام الدولي ودول وشعوب العالم غربية كانت أو شرقية، كما لا يضمن ذلك أيضاً للولايات المتحدة البقاء على رأس هرم النظام الدولي.