ماذا بعد “تراجيديا” سعد الحريري؟
بقلم: فارس خشان

النشرة الدولية –

و… في الختام، تسلّلت الدموع الى عينيه، اختنقت آخر كلماته في حنجرته المُحشرِجة، ترك المنصة المُستقطِبة، واستعجل اللجوء الى الكواليس المُستِّرَة!

هذا المشهد لم يُنهِ إعلان الرئيس سعد الحريري “تعليق” عمله و”تيار المستقبل” في الحياة السياسية اللبنانية، وعدم الترشّح، فردياً وحزبياً، للإنتخابات النيابية، فحسب بل كان، قبل أيّ شيء آخر، ختاماً لتراجيديا سياسية دامت، نحو سبعة عشر عاماً، فهي انطلقت من حفرة “سان جورج” في بيروت في الرابع عشر من فبراير 2005، لتغوص، بعد ظهر أمس الإثنين، في حفرة “اليأس” في “بيت الوسط”، على بعد مئات الأمتار من حيث حوّل الإرهاب المنسوب الى “حزب الله” رفيق الحريري من “مالئ الدنيا وشاغل الناس” إلى جثّة هامدة.

في هذا المشهد، بدا سعد الحريري كأنّه شخصية خارجة من الكوميديا الإلهية لدانتي أليغييري.

الشاعر الفلورانسي كتب، بموسيقى الشعر، على مدخل جحيمه: ” أيّها الداخلون إلى هنا تخلّوا عن كلّ أمل”، فيما الزعيم اللبناني، قال، بحشرجات السياسي، في تبرير الخروج من الجحيم الذي أُلقي فيه وطنه:” لا مجال لأيّ فرصة إيجابية للبنان”.

هذه النهاية أحزنت الكثيرين وأبكتهم وأربكتهم وصعقتهم. كلّ ذلك بديهي، فالتراجيديا تنجح بقدر ما تُكثر من هذه المشاعر، ولكنّها، في المقابل، أفرحت كثيرين آخرين. وهذا بديهي، أيضاً، لأنّ ما يُصعق هنا يُسعد هناك، فـ”مصائب قوم عند قوم فوائد”.

ولكن، مهلاً، فالتراجيديا لم تكن يوماً من أجل الحزن المجّاني، بل كانت، دائماً، من أجل استخلاص العبر إنطلاقاً من فواجع ألمّت بالآخرين.

وسعد الحريري، ولو أنّه كتب تراجيديا سياسية لبنانية مميّزة، إلّا أنّه، حتى لو لم يشأ ذلك، لم يولّد الدموع، فحسب بل ترك وراءه، أيضاً الكثير من الدروس، قبل أن يستقلّ طائرته ويذهب الى حيث يعتقد بأنّه يمكنه إعادة بناء تلك الثروة التي قال إنّ التسويات السياسية التي عقدها أخسرته إيّاها.

ولذلك، فإنّ الفاجِعات تبدأ كبيرة لتعود فتصغر. وفي حياة الأوطان، لا بد من تسريع المراحل، من أجل تنمية الأمل وتقزيم المصيبة.

في كلمته عرض الحريري، بإيجاز، لأبرز المحطات التي أوصلته الى اليأس، فتحدّث عن نقطتين رئيسيتين: التسويات ونظرة اللبنانيين.

في المبدأ، يتم امتداح التسويات، لأنّها تأخذ من الجميع لتُعطيَ البلاد وتوفّر مصالحها العليا، ولكن التسويات التي أبرمها الحريري أتت بنتائج عكسية، فهي أخسرته هو وأفادت خصومه وكسرت البلاد وأطاحت بمصالحها العليا.

وهذا درس لا بد من أن ينكبّ على تمحيصه جميع هؤلاء الذين يرفعون الشعارات التي كان يرفعها الحريري، قبل أن يتورّطوا ويورّطوا البلاد، باسم “حماية السلم الأهلي وتوفير حياة أفضل للبنانيين”، بتسويات جديدة.

مشكلة الحريري في التسويات التي أبرمها كانت في فهم مجتزأ، طوعي أو عفوي، لمفهوم التسوية، فهو لم يتعاطَ مع الخصم على قاعدة حقيقة هذا الخصم، بل على أساس تمنياته في ما يجب أن يكون عليه هذا الخصم، بمعنى آخر لم يضع الحريري، وهو يعقد التسوية، عقل الخصم في رأسه، بل وضع عقله هو في رأس الخصم.

وهذا خطأ منهجي استراتيجي.

مثال على ذلك، لم يتعاطَ الحريري مع “حزب الله”، عندما “ربط النزاع” معه، على قاعدة أنّه جزء من مشروع إيراني يهدف الى الهيمنة على المنطقة، وأنّ هذا الجزء من المشروع يعتمد في تكتيكاته على المعادلة الآتية:” تمسْكَن حتّى تتمكّن”.

ولم يأخذ في عين الإعتبار أنّ “حزب الله” مستعد، من أجل توفير مصلحة المحور الذي ينتمي إليه، أن يحرق لبنان ومصالحه، من دون أن يرفّ له جفن، الأمر الذي ترجمه بتوريط لبنان، رغماً عنه، في مواجهة مفتوحة مع دول الخليج عموماً ومع المملكة العربية السعودية ودولة الإمارات العربية المتحدة خصوصاً، من أجل “حوثيي اليمن”.

كان الحريري يتطلّع أن يُعيد “حزب الله” الى لبنان، من خلال رفد “ربط النزاع” بإيصال واحد من صفوف حلفاء هذا الحزب الى رئاسة الجمهورية: سليمان فرنجية أو ميشال عون.

لم يأخذ الحريري في الإعتبار أنّ من يمكن أن يصل من بينهما الى رئاسة الجمهورية، عليه أن يتعهّد بتشكيل غطاء قوي لهذا الحزب، في مساره نحو تحقيق أهدافه.

وحين فضّل “حزب الله” عون على فرنجية لم يفعل ذلك على أساس أنّه “وفي لوعوده”، فهو عند انتخاب الرئيس ميشال سليمان، لم يتردّد في الإخلال بوعوده، بل على أساس ثقته بأن عون أصبح موثوقاً بشكل مطلق، وتاليا يمكن أن يُنفّذ أخطر صفقة على الإطلاق عقدها معه: الجمهورية مقابل الرئاسة.

وعليه، فإنّ التسوية التي عقدها الحريري مع عون لم تنتج ما رغب به، فعون، لم يساعده في “لبننة حزب الله”، بل ساعد الحزب في “أيْرنة” لبنان.

وهذه نقطة جوهرية وقفت، وراء خسارة الحريري لـ”بعض صداقاتي الخارجية”، وفق ما قال في كلمة “التعليق والإنكفاء”.

وليس سرّاً أبداً أنّ أهم خساراته وأبرزها وأخطرها وأكثرها كلفة مالية ومعنوية، تجسّدت في خسارته للمملكة العربية السعودية.

كلّ هذا المسار قاد إلى “تسوية” قانون الانتخابات النيابية التي عُقدت على أساس أنّ توزيع السلطة في لبنان لا تُمليه الجهة التي تتحكّم بالأكثرية النيابية، بل اتفاق الأقوياء في طوائفهم.

كان تركيز الحريري، يومها منصباً على “إنتاجية تنفيذية وتشريعية” أكثر ممّا كان منصبّاً على مخاطر انقلاب طبيعة الأكثرية، متى تحكّم بها “حزب الله”، على سمعة لبنان الخارجية، وعلى توريط لبنان في مشاريع “حزب الله”، وعلى سلامة المؤسسات وديمومتها، وعلى أمور جوهرية أخرى.

وهذه الطريقة في تعاطي الحريري مع التسويات أخسرته “الكثير من تحالفاتي الوطنية”، لأنّ اندفاع الحريري نحو احترام ما تعهّد به، في ظل عدم تنازل الأطراف الأخرى عن فاصلة واحدة من خططها، جعله يصطدم بالجميع، قبل أن يوصله الى نقطة اليأس من المشاركة في الحياة السياسية.

نقطة اليأس هذه، وفق ما عبّر عنه الحريري في كلمته، تمثّلت في عدم قدرته على تحمّل أن يعتبره “عدد من اللبنانيين أحد أركان السلطة التي تسبّبت بالكارثة والمانعة لأيّ تمثيل سياسي جديد من شأنه أن ينتج حلولاً لبلدنا وشعبنا”.

وفي هذه الشكوى لا يمكن تحميل من يتعاطى مع الحريري على أساس أنّه أحد أركان السلطة أيّ مسؤولية، فهو، بفعل التسويات التي انحرفت في كثير من الأحيان الى مستوى الصفقات، برز كذلك.

قد يكون “الجمل بنية والجمّال بنية”، ولكن ما شاهده اللبنانيون أنّ الجمّال والجمل يتّجهان، بتناسق وتناغم، نحو وجهة واحدة، وهي الوجهة التي حاول اللبنانيون، في ثورة 17 أكتوبر 2019 أن يحولوا دون إيصال بلدهم إليها، وقال الحريري فيها، أمس ما يشبه ما كتبه دانتي في “الكوميديا الإلهية” على باب “جحيمه”، بحيث أعلن:” لا مجال لأيّ فرصة إيجابية للبنان في ظل النفوذ الإيراني والتخبط الدولي والإنقسام الوطني واستعار الطائفية واهتراء الدولة”.

وعليه، فإنّ ما أقدم عليه الحريري، وفق مقتضيات إعلانه أمس، يمكن تحويله الى فرصة، بحيث يكون “منارة”، إنْ لم يسترشد بها اللاعبون السياسيون فلا بدّ من أنْ لا تغيب عن بصر المواطنين اللبنانيين وبصيرتهم.

إنّ سعد الحريري، في خطوته الكبرى التي أقدم عليها، أفسح المجال أمام “التغييريين” ليبرزوا، فهو أزاح نفسه وتكوينه الحزبي، من أمامهم، فهل يكونون على قدر التحدّي، وينجزون ما لا يتوقفون عن الوعد به؟

الحريري لم يطلب من الطائفة السنيّة ولا من “الرفاق وبعض الأخوة” الذين أخسرته إياهم التسويات التي عقدها أن يبتعدوا عن الحياة السياسية وعن المعارك الانتخابية، فهل يكون هؤلاء، هم أيضاً، على قدر الإنتقادات التي أكثروا من توجيهها الى الحريري، فيتّحدوا ويسلكوا الدروب التي طالما نادوا بها، ليحققوا ما عجز هو عن تحقيقه؟

والحريري عاقب نفسه على ما أوصلته التسويات إليه، فتخلّى عن الزعامة، “مؤقتّاً”، فهل يعتبر القادة السياسيون، ويتوقفون عن لوم غيرهم على ما وصلت إليه أحوال لبنان، ويعيدون النظر في التسويات التي عقدوها، بعدما أثمرت عكس ما وعدوا اللبنانيين به؟

والأهم من ذلك، أنّ “قانون الصدفة” أوجد تزامناً بين “تعليق” الحريري لعمله السياسي، من جهة والمبادرة الخليجية التي حملها وزير الخارجية الكويتي الشيخ أحمد ناصر المحمد الصباح، من جهة أخرى فهل يصب اللبنانيون عموماً ومنتقدو الحريري خصوصاً، جهودهم السياسية والدبلوماسية والشعبية، من أجل أن يأتي الجواب اللبناني الرسمي عمّا تضمنته من مبادئ سيادية، إيجابياً؟

قد يكون الحريري ارتكب، في مسيرته، أخطاء كثيرة، ولكنّه، وهو يعاقب عليها نفسه، رسم للبنانيين، ولو من خلال عبارة “يائسة”، خارطة الطريق الى الخروج من الجحيم، إذ إن الفرصة الإيجابية للبنان تقتضي الحد من النفوذ الإيراني، وتوضيح السلوك الدولي، وتوحيد الجهود الوطنية، والتخفيف من غلواء الطائفية وإعادة بناء الدولة.

وهذه كلّها متوافرة في “المبادرة الخليجية” التي أصبحت في يد المسؤولين اللبنانيين، فليشمّر “الأشاوس” عن سواعدهم أو ليتفضّلوا ويقتدوا بالحريري فيفسحوا المجال أمام من يدّعي…القدرة.

الفضيلة التي سجّلها الحريري وستبقى عبرة لمن يعتبر أنّ “العاجز” لا يتمسّك بكرسيه بل يهجرها، ولو بالدموع والحسرة.

 

زر الذهاب إلى الأعلى