الأزمة الروسية – الأوكرانية إلى أين؟
بقلم: د. سنية الحسيني
النشرة الدولية –
هو حراك دبلوماسي نشط تشهده القارة الأوروبية، وتقوده فرنسا، لخفض درجة التوتر الذي تصاعد مؤخراً بين روسيا من جهة وأوكرانيا والولايات المتحدة وحلف الناتو والدول الغربية من جهة أخرى، ووعد الأمين العام لحلف الناتو، بالرد سريعاً بالتوافق مع الجانب الأميركي، على مقترحات روسيا بشأن الضمانات الأمنية التي تتمحور حول تمدد حلف الناتو شرقاً، وانسحاب القوات والعتاد العسكري للحلف من الدول التي لم تكن أعضاء فيه قبل عام ١٩٩٧. وبدأت الأزمة فعلياً عندما تقدمت أوكرانيا بطلب عضوية في حلف الناتو، واعتبر أمين عام الحلف بأن قبول أو رفض أوكرانيا، شأن يتعلق بأعضاء الحلف وأوكرانيا فقط، وليس لروسيا دخل فيه. وينبع اعتراض روسيا على انضمام أوكرانيا الى حلف الناتو من اعتبارات سياسية وأمنية استراتيجية.
وكانت الولايات المتحدة والدول الغربية قد وعدت روسيا، خلال عهد الرئيس بيل كلنتون، كما وعدت قبل ذلك الاتحاد السوفييتي مطلع العقد الماضي من القرن الماضي، بعدم السماح بتمدد حلف الناتو شرقاً، أي الى دول الاتحاد السوفيتي السابق والتي تعتبرها روسيا دول الجوار القريب. وتسمح العضوية في حلف الناتو بإقامة قواعد عسكرية للحلف في الدول الأعضاء، ما يجعل روسيا على مرمى صواريخ الحلف، خصوصاً عندما تقام في دول الجوار القريب لها. وتعتبر روسيا أن تمدد حلف الناتو شرقاً يشكل لها معضلة خطيرة وثغرة أمنية عويصة في عقر دارها، ويرتبط ذلك بعقيدتها الأمنية التي ورثتها على مدار قرون من روسيا القيصرية والاتحاد السوفييتي، اذ تعتبر روسيا أن أمنها القومي يبدأ عند حدود دول الجوار القريب، وليس من حدود روسيا الفعلية. وترتبط تلك العقيدة الأمنية بعلاقة روسيا مع دول أوروبا الغربية، والتي لم تتغير رغم مرور كل هذه العقود، وتغير بنية الأنظمة في تلك البلدان، والتي تتسم بالتناقض، فهي علاقات اقتصادية تعاونية وأمنية حذرة، خصوصاً في ظل اتساع رقعة الأراضي الروسية.
ولفهم العقيدة الأمنية الروسية وأهمية أوكروانيا بالنسبة لروسيا، نلاحظ أن روسيا القيصرية اعتمدت على غزو دول الجوار وضمها لاراضيها، في حين اعتمد الاتحاد السوفييتي على كسب الدول الحلفاء من الحكومات الاشتراكية المؤيدة والداعمة له، وبناء التحالفات معها. وضمن ذلك الإرث، تقوم روسيا اليوم بدعم حكومات حليفة خصوصاً في دول الجوار القريب، وباستخدام أساليب مختلفة، منها الدعم الاقتصادي والعسكري أو تحمل عبء حماية تلك الدول أو غزوها عندما يتم اسقاط حكوماتها الموالية لها لتمكين قوى حليفة لها، أو تأجيج حركات انفصالية ضد الحكومات غير الموالية لها، خصوصاً وأن معظم تلك البلدان يشكل الروس جزءا من تركيبتها السكانية. وتعد أوكرانيا ذات أهمية خاصة لروسيا فهي دولة عازلة بينها وبين أوروبا وتأمينها من الناحية العسكرية ضرورة أمنية قصوى. وترتبط روسيا مع أوكرانيا بعلاقات اقتصادية عميقة، قائمة في أساسها على عنصر الطاقة البالغ الأهمية بالنسبة لروسيا، حيث تشكل أوكرانيا حلقة وصل رئيسة في نقل الطاقة لوجود شبكة واسعة من الانابيب الناقلة والتي يمر عبرها ٨٠٪ من صادرات الطاقة الروسية. كما تعد أوكرانيا أحد منافذ روسيا الثلاثة إلى العالم، والرقعة الجغرافية التي تحول دون إمكانية تطويقها.
بدأت مساعي روسيا لتوتير الأجواء مع أوكرانيا وحلفائها، بداية في شهر تشرين الثاني من العام الماضي، عندما أثيرت قضية انضمام أوكرانيا لحلف الناتو، فنشرت ١٠٠ الف جندي على حدودها الجنوبية مع أوكرانيا، ومؤخراً أي قبل يومين، عندما أعلنت عن بدء عمليات التفتيش عن جهوزية قواتها، بما يوحي باقتراب القتال. جاء تحرك روسيا في هذا الوقت بالذات بسبب فشل محادثاتها مع الولايات المتحدة حول الضمانات الأمنية فيما يتعلق بتمدد حلف الناتو شرقاً، خصوصا تجاه أوكرانيا، في ظل عدد من الاعتبارات على رأسها، ردة فعل الولايات المتحدة الضعيفة على تحركات روسيا العسكرية قبل شهرين تجاه أوكرانيا، لدرجة استدعت استهجان الرئيس الاوكراني الحليف لأميركا لموقف واشنطن. كما قد يعتبر التوقيت من بين الاعتبارات التي وضعتها روسيا في اعتبارها، ففي ظل موجة البرد القارس في بلاد أوروبا الباردة وسط فصل الشتاء، ووسط حالة من تضاعف الحاجة لمصادر الطاقة، التي تعتبر روسيا المورد الأول لها لدول أوروبا. وتمد روسيا أوروبا ما بين ٣٥-٤٣٪ من حاجتها من الغاز الطبيعي و٢٠٪ من حاجتها من النفط، بما يمثل حوالي ٩٠٪ من مجمل صادرات روسيا من الغاز الطبيعي و٧٠٪ من مجمل صادراتها من النفط.
ورغم الإعلان عن تحركات عسكرية وحالة تأهب لقوات حلف الناتو والولايات المتحدة، والتي تصاعدت خلال اليومين الأخيرين، وتعزيز عسكري بالقوات والعتاد لدول في شرق أوروبا، الا أنها لم تتجاوز في حدتها تلك التهديدات التي وجهت لروسيا قبل ثماني سنوات عندما ضمت شبه جزيرة القرم وأجزاء أخرى من شرق أوكرانيا، الأمر الذي يستبعد إمكانية حدوث مواجهة عسكرية الآن بين روسيا وحلف الناتو والولايات المتحدة، في حال غزت روسيا الأراضي الأوكرانية. وما يرجح تلك المقاربة أيضاً، إصرار قيادات البلدان الغربية، وعلى رأسها الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا وألمانيا، على التركيز على تهديد روسيا بعقوبات غير مسبوقة. وقد يكون الاكتفاء الغربي بتهديد روسيا بالعقوبات في حال غزوها لأوكرانيا، من بين الاعتبارات التي شجعت روسيا على المضي قدماً في تهديداتها، خصوصاً وأن الدول الغربية لا تتفق جميعاً حول تلك العقوبات، كما أن قوة ومكانة الولايات المتحدة تشهد تراجعاً ملموساً، مقارنة بعام ٢٠١٤، وهو العام الذي فرضت خلاله القوى الغربية عقوبات على روسيا، عندما قامت بضم شبة جزيرة القرم.
وليس من المتوقع أن تتأثر موسكو كثيراً بالعقوبات التي يعتقد أنها ستفرض عليها، في حال غزت أوكرانيا، فتدمج روسيا أموالها ضمن النظام المالي الأوروبي، وتعتبر شريكها الاقتصادي الأول، وأكثر من نصف صادراتها توجه لأوروبا، وأكثر من ٤٠٪ من وارداتها تأتي من أوروبا. كما أن دول الاتحاد الأوروبي تعتمد بشكل أساسي على واردات الطاقة الروسية، والتي تقوم الصناعات الأوروبية المركزية عليها. ورغم العقوبات الغربية المفروضة على روسيا منذ عام ٢٠١٤، والتي وصفت بالمتواضعة مقارنة بتلك المفروضة على إيران على سبيل المثال، تعتبر روسيا من بين مجموعة الثمانية، أي الدول الأكثر ثراءً ونفوذاً في العالم، وتمتلك ثاني أقوى جيش في الكون، ولا تدين بأي ديون خارجية، وتمتلك موارد ضخمة من منتجات الطاقة، ومنتج مهم للصناعات الثقيلة. ورغم ذلك تعتقد جهات غربية بفعالية عقوبات مثل تجميد احتياطات البنك المركزي الروسي، والتي تقدر بمئات ملايين الدولارات، أو اخراج روسيا من نظام التحويلات المالية (SWIFT)، خصوصاً وأن العقوبات السابقة فرضت ضغوطاً على النمو الاقتصادي الروسي الذي انكمش في عام ٢٠٢١ الى ١.٧ ترليون دولار مقارنة بـ ٢.٣ ترليون دولار عام ٢٠١٣.
انطلاقاً من العقيدة الأمنية الروسية، وشخصية فلاديمير بوتين المؤثر الحقيقي في صنع القرار الروسي، لا يعتبر غزو أوكرانيا هدفاً بحد ذاته اليوم، خصوصاً في ظل وجود حركات انفصالية موالية لروسيا في شرق أوكرانيا، ووجود اتفاقيات، رغم عدم الأخذ بها حتى الآن، تضع قواعد لتثبيت دور الأقاليم التي تدين بالولاء لروسيا في صنع القرار الأوكراني، اذ يبقى الهدف الأساس للروس هو منع أوكرانيا من الانضمام لحلف الناتو، أي بقاء أوكرانيا إما حليفاً لروسيا أو طرفاً محايداً. وهذا يرجع إلى أن بوتين لجأ لسياسة «حافة الهاوية» والتحشيد العسكري على حدود أوكرانيا لإثارة الدول الغربية، في سبيل التأثير على نتائج المفاوضات فيما يتعلق بتمدد حلف الناتو نحو الشرق خصوصاً تجاه أوكرانيا، الا أن سياسة حافة الهاوية أحياناً تنزلق، وانزلاقها قد يوصل لنتائج لا تحمد عقباها.