الجزء الثالث من العشوائية 60… شما الذي يُبْقيكُما معا؟

الدكتور سمير محمد ايوب

النشرة الدولية –

وما ان أشْعِرَتْ بأنّ المقامَ  قد استقر بي، مع ضيوفِ الذّكرى الخمسين لميلادها، في الحديقة الأمامية لدارتها المُطلة على بحيرة طبرية ومدينة سمخ الفلسطينية،  خرجت علينا تتهادى برفقة صُويحباتٍ لها.  وقَفنا جَميعا لنردّ لها التحية. إقتربت مِني مُبتسمةً. وهي تشدُّ على يدي مُرحبةً، نَظَرتْ في عينيَّ بِتلويحٍ يقبلُ التّأويل.  وفي ظلالِ جمالِ حضورِها، امْتلأَتْ نفسيَ بفيوضٍ منْ همسٍ مُثَرثِرٍلعقلي:  لِتَتَّضِح رُؤيتُك، إقترب منها بِقَلبك يا رجل. فإن ضرير الروح لا يرى، وإن أبصر ما أمامه. أقربُ وأجملُ ما فيها، ليس ما تراه عيناك الآن، ولا ما قبل الآن. أغمِضْهُما ودَع قلبَك يُبْصرُه.

همَسْتُ لشبحٍ خِلتُه يَتقافزُ واعِظاً منْ حَولي: تمَهّل يا فتى، لقد اقْتَرَبتَ منها لا بحثا عن المُبهر فيها، فكل تفاصيلها العادية تأسرُك. اقتربتَ حتى باتت كلّ شياطينك معجبة بملامحها الآمنة، وأقنعتكَ مرجعياتها، إنحيازاتها واهتماماتُها، بأن أرواحكما مُتفاهمة.

ومع هذا، كان لساني بثوابته، قد أفلس عن موازاة العفوية في قلبي. لمْ يجرؤ على نطق ما يفكر فيه قلبي.  فتذكرتُ بأن الكتابة تظل هي الأفصح لسانا وأجرأ،  لكل من يستصعب البوح عما بداخله من مشاعر.

بمهارة قطعت الشعرة التي تفصل بين الحياء وضرورات البوح،  وكتبت لها على شاشة هاتفي الجوال: ماذا لَو أخبرتُكِ بأني ما زلتُ أمتلكُ قدرةً على الحب!!! وأني أُخبِّئ لك حبا اعظمُ مِما أظْهِرُ لكِ مِنه حتى الآن!!! حاولت أن أتوبَ عنك، وفشلت. وبَقِيَت نوافذ الأمل مُشرعةً، غيرَ مُلوثة بغبارِ الياس. فهل تأخرت؟!!!

سرعان ما أعادت لي رسالتي الحَيِيَّةِ، موشَّحةً بلونٍ أحمرٍ يقول: يصلني دائما حديث روحك، وشوشاتك الصامتة. وطالما أن الله قد خلق لكل روح روحا تُماثلها،  فإن  روحَك يا رجل،  تُقابل روحي وتُسعدها. إني أعيشُك كلّ يوم. ولَو يُدرك عتمُ الليل حاجتي لك، لابتلع المسافات كلّ ليلة، وأتى بك إليَّ بلمحِ البَصر، كما تفضَّل هُدْهُد سليمانٍ وفعلَ بعرشِ بلقيس.

والتقينا لقاء الشركاء. واتفقنا على أن لكل مرحلة من العمر احتياج وتفكير خاص. وأن الأحاسيس كالجسد، تبرُد إن لَم يحتضِنُها دفءٌ طازجٌ مُستدام. لنُحبّ قولا وفعلا، في الغضب كما في الرضا،  قرّرنا إيقاظ العقلِ فينا. وبالتّخلي خففنا الكثير من حمولات عقلينا، ليبقيا ملاذان آمنان، جديران بنحت طقوس مميزة، خاصة بنا، لا يعلمها أحد سوانا.

ولأن الواحد من الناس، قد يخون نفسه كما يخون الآخرين، اتفقنا على أن الحب كالجيتار، لا يعطي ألحانه إلا لمن يُتقن العزف على كلِّ أوتاره. لنفهم الحب ونُبحرَ فيه أكثر، قرّرنا تعلُّم مَهاراته، وإتقانها ما استطعنا إلى ذلك سبيلا.

وأول المهارات، الاعتراف. وقد توغلنا في بعضٍ، أجدُ أنّ منَ الضروري أن أقولَ لكِ سيدتي: أني في الحياة العامة لست رماديا. للسياسة حضورٌ مُكثف في يومياتي، تضيق معارجي بما رحبت، عن تأطير آفاقِه المُربكة حينا، والمُستبدة أحيانا.

دَنَتْ وتَدَلَّتْ نسائمُها وهي تقول: أنا مع الحفاظ على أصالة الفطرة السياسية التي تؤمن بها تاريخيا، لأنها جزءٌ بالغُ الأهمية منْ كيانك الصامد لسنين طويلة، ومن هويتك النقدية. فليس من الضروري أن تُعاقب قلبَك بِحرمانه من إغواءات الحب، وأن لا تُعاقب عقلَك بإطفاء القناديل المُدهشة للسياسة فيه. العلّة ليست في القلب ولا في العقل، بل في مسالك المُحبين ودهاليز المُتسيِّسين،  الذين لا يُحسنون الاستفادة، مما في تجليات هذا وغوايات ذاك.

أولَسْت مَن علّمني، أن الحياة هي المادة الخام لمعاني الحب، وأنها مرنةٌ مُتجددة وخلاّقة؟!  بهذا المعنى، أثق بانها لا تتعارض مع الحب ولا مع السياسي، بل هي المحرك الأساس لهما، والقادرة على حمايتهما من الضياع أو التبدد.  وهي الكاشفة بامتياز عن فراغات غير معروفة في النفس الإنسانية،  ورؤيا متأنقة لاستعادة أشياء لم يسبق قولها، وعلاقة متجددة بين الفراغ القائم في قلبك والفراغ المطلق في عقلك، والمبدعة في إنطاق صوامِتِ الروح المتمردة، وتجسيد الكثير من جنونها العاقل.

قلت بسعادة: نعم، الحب في زمن مصفوفات التناقض،  فيضٌ نوعيٌّ يزحف على الزمان والمكان والطاقات. هو الفضاء الأرحب لتحرير القلب والعقل من القيود التي يصطنعها وقارُ السياسي وضوابطه وأولوياته.   وجودُهما معا، لا يمنع من التأهيل والتجديد وإعادة ضبط ِالمواقيت وسلالِم الأولويات،  بما يتفق مع دوران علاقة مُزدحمة بتدفق ضرورات حقيقية واحتياجات عبثية أحيانا. وهو نقلة نوعية هائلة، تفيض على القلوب والعقول والارواح، وتفرض دونما قصد او هدف، اعادة برمجة، يعيد اللسان فيها حساباته، ليتكافئ وجماليات التطور الحياتي الجديد، ويتصالح مع نفسه ويتماهى مع جنونه.

ولِنُزهر معا،  توافقنا على أن نُجَنَّ، لو كان في الحب جُنونٌ أو طيشٌ أو تهوُّرٌ أو لا مُبالاة. فالقلوبُ إنِ اتَّسع فراغُها لِوسواسٍ خنَّاسٍ يُفزِعُها الظنُّ والشكُّ والنقُّ. ليكون لكل منا من الآخَرِ ما يراه لنفسه، إتفقنا على أن لا تتخلى عن شيء مما يجعلنا نبتسم.

وكي لا نأتي بدببةٍ تَعيث إفسادا في كرومنا، توافقنا على أن الحياة حريقٌ هائل، لا يُطفأ بكأس ماء واحدة. وأن لا فائدة من طرد الشياطين، طالما هم جزء من الحياة، يجب أن نقبلهم وأن نعيش في سلام رغما عن وساوسهم.  فالخلافات والارتطامات إن تعلمنا منها كيف نخطأ بشكل افضل، تقوي العلاقة الحقيقية وتنهي المؤقت منها.

فالشريك المناسب لا يرحل أبدا ولا يدفعك للرحيل. فاتفقنا على أن لا نلجأ إلا لقلوبنا كملاذات آمنة. ومع سيجارة وفنجال قهوة نعالج أحزاننا، ولا نتشاكى منها بالعتاب ولا بالنق. فإغفاءة على صدرٍ تُحبه ويُحبك، تُساوي سنواتٍ منْ مُجالسة أطباء نفسيين واخصائيين اجتماعيين.

زر الذهاب إلى الأعلى