حكاية الإجّاصة
وفاء أخضر
النشرة الدولية –
لمّا أخذت قطعة من اللّحم المشوي من على مائدة أعدّت في بيتنا لضيف غريب، الكلّ زجرني. شعرت أنّي الكائن الأكثر ضآلة وخساسة في هذا العالم؛ كيف أجوع؟ وكيف أشتهي؟ وكيف آكل من بيت أبي؟!
عليّ أن أفكّر طويلا، ولو أنّي في الخامسة أو السّادسة من عمري. علّيّ أن أكره الحياة في أعماقي، أن أكره الرّغبة وأكره الشّهوة وأكره اللّذة! علّي أن أبكي وأقطّب وجهي، وألملم رغباتي. ( الغريب والمُربك أنّ أمّي كانت بعد هذا لا تنفكّ تشكو من أنّي بكّاءة!)
غلبتني الرّغبة عينها في بيت جارة غنيّة؛ كنت أكنس لها الدّار وأمسح لها البلاط لتمنحني زجاجة طلاء أظافر، أو قارورة عطر مزيّف؛( شغوفة بالعطر واللون) أسحب لها الماء بالدّلو( الّذي كان أثقل منّي) من البئر؛ وأزحف تحت السّرير المنخفض لأمسح البلاط.
أنهيت هذا العمل ” الشّاق”، ودخلت المطبخ لأغسل يديّ؛ على الطاولة جاط إجّاص. أنا جائعة، والإجّاصة صفراء شهيّة! صاحبة المنزل لا تعرف شيئا عن جوعي، وعن خروجي المبكر من المنزل دون فطور.
أخذت الإجّاصة ووضعتها في سروالي التحتي. بنطالي واسع، إذ جسدي ضئيل، كأنّما هو لطفلة في الثالثة من عمرها. خبّأت الإجّاصة وأنا أتمايل على فخذيّ حتّى لا تسقط منّي وتفضحني!
الغريب أنّي لا أتذكّر طعمها، ولا أتذكّر حتّى أنّي أكلتها! لكنّي لم أنس يوما شعوري بالذّنب والإثم لأنّي فعلتها! أصبحت لصّة!
هل سيرضى اللّه عنّي؟ هل سيغفر لي وقد تلوت له صلوات كثيرة وأنا أمشي بثيابي المتسّخة، وجلدي الذي لوّحته أشّعة الشّمس الحادّة؟
كنت دوما أسير بدون وجهة، أسير هربا من حزن لا أعرف له سببا ، هربا من زجر وسباب وشتائم وهراوات، وبصاق، وأوامر…
لا أحد يعنيه لباسي، أو طعامي. الأفواه والأيدي في البيت عديدة، والصينية الكبيرة حيث يوجد الطّعام، لا تتسع دائرتها إلّا للأكبر والأقوى. نحيلة ومتعبة، وأعاني من نقص سكّر دائم في دمي؛ مشكلتي هذه كنت أحلّها برغيف خبز أشبعه بالسكّر والماء؛ وفي حالات الرفاهية، أخلط الطّحينة بالسّكّر؛ ويوم أكون محظوظة، أجد موزة أمزجها بالسّكّر على الخبز وآكلها بشهيّة وغبطة. كنت عاشقة سكّر، وعاشقة معرفة. لم يكن في بيتنا عدا عن كتب أبي الدينية، سوى رواية سيف بن ذي يزن ومجموعة قصصية. قرأت الرواية مرّات ومرّات؛ كنت مفتونة بقدرات البطل الخارقة التي تمكّنه من الانتصارللحقّ والخير دوما.
ساعدت صاحبة الدّكّان في حيّنا في كلّ ما تطلبه منّي طمعا بالكتب التي تحولّها قراطيس للفّ الفشّار والترمس. كنت ألتهم محتويات تلك الكتب التي يرميها لها أقاربها الأغنياء أيّا كانت المعلومات التي تحتويها.
بدأت أشعر بعمق أنّ الحياة غير عادلة معي؛ هذا كان بداية تمرّدي، وسؤالي عن جدوى ما نعتنقه من قيم ومقدّسات.
لم أبي يقرأ القرآن كثيرا وفي بيتنا ظلم كثير وأكثر؟ لمَ أمّي تصلّي دوما ولاتنفكّ تسبّ وتشتم؟ لم هي تكره أبي و تكره جنسها وتقرّ بأنّ الذّكر جنسا أعلى وأسمى لمجرّد أنّ الصّبيّ يمتلك “التنتورة”( القضيب والخصيتين) ؟ فهو يستطيع أن يخرج، يتعرّى، يلعب، يضرب، يكون سيّدا.
كلّ هذا جعلني أتمرّد على قوانينهم ولو خلسة! بدأت أبيح لنفسي ممنوعاتهم، كأنّي كنت أعي أنّ الضرورات تبيح المحظورات؛ وبدأت رحلتي في التمرّد المصحوب بالخوف والشّعور بالإثم والذنب؛ ولأنجو من هذا استدعيت قريني!
( أنا أخطئ كثيرا)