“مصائب قوم عند قوم مناصب”
بقلم: عثمان ميرغني
النشرة الدولية –
أكثر من عشرين سنة مرت على اشتعال حريق دارفور بالسودان، حوالي 300 ألف من الأرواح البريئة لن تعود إلى الحياة مرة أخرى، لكن أكثر من مليوني نازح ولاجىء أمضوا كل تلك السنوات في المعسكرات ينتظرون دورهم للعودة إلى الحياة بعد أن عاد قادة الحركات المسلحة إلى الحياة العادية بتوقيع اتفاق السلام في عاصمة دولة جنوب السودان ”جوبا“ أكتوبر 2020.
لم يكن اتفاق السلام بجوبا الأول في تاريخ السودان، فمنذ اتفاقية السلام الأولى لإنهاء الحرب في جنوب السودان بالعاصمة الأثيوبية أديس أبابا ،فبراير 1972، ظل السودان يوقع اتفاقات سلام مع المجموعات التي تحمل السلاح تنتهي بتوزيع المناصب على القيادات دون أن يتغير الحال على الأرض لدى الذين من أجلهم رفعت الشعارات فوق أسنة رماح الحرب.
في مايو 2006 وُقّع اتفاق السلام بين الحكومة السودانية والسيد مني أركو مناوي بالعاصمة النيجرية ”أبوجا“ وعاد إلى القصر الجمهوري بالخرطوم في منصب ”كبير مساعدي رئيس الجمهورية“، ولم يعد أحد من النازحين واللاجئين إلى منزله.
في 2011 وقع اتفاق بالدوحة بين مجموعة من الحركات الحاملة للسلام بدارفور والحكومة السودانية، وتكونت بموجبه سلطة إقليمية تشرف على تحقيق السلام على الأرض، ووفرت الاتفاقية بكرم حاتمي وظائف دستورية في أرفع مناصب الدولة وأخرى في مراكز وزارية وبرلمانية وفي الولايات، وعاد عشرات من قادة الحركات المسلحة إلى الخرطوم، ولم يعد النازحون ولا أحد من اللاجئين إلى قريته أو داره.
بعد الإطاحة بنظام البشير وفي ظل حكومة مدنية برئاسة الدكتور عبدالله حمدوك وفي أكتوبر 2020 وقعت اتفاقية السلام بـ“جوبا“، ووزعت المناصب السيادية في القصر الجمهوري والوزارية لقادة الحركات الحاملة للسلاح، وعشرات المئات من وظائف تنفيذية أقل في مختلف قطاعات الدولة، واستحدث منصب ”حاكم إقليم دارفور“ للسيد مني أركو مناوي، ووصل قادة الحركات المسلحة إلى الخرطوم ومكثوا فترات متفاوتة في الفنادق الفاخرة على نفقة المواطن الفقير، إلى أن انتقلوا بعد ذلك إلى منازل مريحة، ولم يرجع نازح واحد ولا لاجىء إلى بيته أو قريته.
وفي ظل تخبط سفينة الحكم في السودان وبقاء منصب رئيس الوزراء شاغرا مع إقالة الوزراء، لم يفقد أحد من الحاصلين على المناصب عبر اتفاق جوبا موقعه، بل ظلوا يمارسون أعمالهم اليومية في مكاتبهم بالخرطوم رغم عدم وجود رئيس وزراء ولا وزراء في بقية المناصب، ولم يرجع نازح واحد أو لاجىء إلى بيته أو مزرعته حتى الآن.
والأمر لا يتوقف على دارفور، ففي ولاية النيل الأزرق التي أيضا تعاني ويلات الحرب لأكثر من 15 سنة، عاد القادة إلى الخرطوم ودخلوا القصر الجمهوري من أوسع أبوابه وامتيازاته، ولم يعد النازحون ولا اللاجئون.
ولا يزال في قوائم انتظار ”اتفاقات السلام“ حركتان، الحركة الشعبية لتحرير السودان شمال بقيادة السيد عبد العزيز الحلو بجنوب كردفان، وحركة تحرير السودان بقيادة الأستاذ عبد الواحد محمد نور بدارفور، بدأت المفاوضات مع الأول ولكنها توقفت بعد الجولة الأولى في انتظار انجلاء معركة الخرطوم بين الفرقاء المدنيين والعسكريين، وإذا شاء القدر توقيع اتفاق أو اتفاقي سلام، فسيعود القادة إلى الخرطوم لتُفسح لهم المزيد من الكراسي لمناصب جديدة، ولكن لن يعود أحد في جنوب كردفان ولا دارفور إلى بيته أو قريته.
اتفاقات السلام السودانية هذه، فيها ”ثقب أزرق“ كبير يجعل المواطن حاضرا عند المغرم غائبا عند المغنم، فبنود اتفاقات السلام تشير بوضوح ودقة مثيرة للدهشة إلى المناصب عددا وموقعا وتربط تنفيذ منحها بقيد زمني، ولكنها عند الإشارة إلى مصالح المواطن تجملها في بنود عامة تفتقد الإلزام الصارم باستيفائها.
مثلا: اتفاقية جوبا الموقعة في 3 أكتوبر 2020، نصت على منح الحركات الموقعة عليها 25% من المناصب الوزارية، ومثلها في المجلس التشريعي والولايات. وحددت بصورة دقيقة متى وكيف تنفذ هذه القسمة المناصبية، لكنها حين النظر تجاه المواطن، ترهلت الكلمات والبنود وهي تحمل في جوفها تفسيرا واسعا ممطوطا بلا محددات زمنية مثل بند (إعادة النازحين إلى قراهم) فهي عبارة تقبل أن يكون الوعد بالعودة ثوابا على الصبر يتحقق بعد النفخ في الصُوّر.
كتبت قبل ابتداء مفاوضات جوبا ودعوت لتغيير نمط مفاوضات السلام من ”قسمة المناصب“ إلى ”قسمة المصالح“، فبدلا من النص على مناصب سيادية ووزارية وولائية يمكن النص على مشروعات التنمية بالولايات المتأثرة بالحرب، فمثلا مطار دولي لكل ولاية وألف كيلو متر من السكك الحديدية لكل إقليم، وإضاءة ألف قرية بالطاقة الشمسية، ويستمر الحساب في بقية الخدمات التعليمية والصحية والبنى التحتية وغيرها.
قسمة ”المصالح“ لا ”المناصب“ تجعل المواطن المستفيد الأول من اتفاق السلام، وتتحول كلمة ”السلام“ من الورق إلى الواقع.