البندقية! وعيون دامعة” على باب طبيب
بقلم: اكرم كمال سريوي
المغرد –
النشرة الدولية –
إنها رسالة، من جندية إلى رؤساء البلاد، كتبتها منذ مدة، وترددت في نشرها، لعلمي الأكيد أن من يجب أن يسمعوا، أصابهم الصمم، بعد أن فقدوا ضمائرهم منذ زمن. لكن سأنشرها الآن، بعد أن أصبح المواطن شهيد ربطة خبز على باب الفرن، بدل أن يكون شهيد الوطن للذود عن حدوده، لعلّه ما زال ولو القليل من الانسانية والوطنية في قلوب البعض .
سمعتها تقول : “هذا يُعادل راتبي فهل يجوز أن تأخذه مني دكتور؟؟؟ ”
دفعني الفضول لمعرفة التفاصيل، وقبل أن أقترب رأيت الطبيب يحسم لها مبلغ 250 الف ليرة من قيمة الفاتورة، البالغة مليون ليرة. بدأت الفتاة تعدّ النقود ويداها ترتجفان، وأشاحت بوجهها عن الحضور محاولةً إخفاء دمعة، طارت من محجر عينيها، لشدة ما اختزلت من الألم والقهر.
ربتُّ على كتِفها، فأنا أعرفها جيداً، وأعرف العديد من رفيقاتها اللواتي تدّربن على يدي في الجيش، منذ أكثر من عشر سنوات.
أذكر يومها! كانت الفرحة تملأ وجوههنَّ ببزاتهنَّ المرقطة الجديدة، وقلوبهنَّ عامرة بالحماس والإيمان وحب الوطن والجيش، وبريق الأمل يلمع في عيونهنَّ بغدٍ أفضل.
رحّبت بهنَّ على الطريقة العسكرية الخشنة الصلبة!!!
فكان درسهنَّ التقشّفيّ الأول، بعد أن خلعن عنهنَّ رداء غنج فتيات المدارس والجامعات، هو “التمويه ومعمودية الطين”، حيث تدحرجن على الشوك والحجارة، ولبسن الوحل قناعاً وعقدن الشَعر فوضى، حتى باتت وجوههنَّ كوجهٍ صلصالي واحد، اصطفوا أشبه بجنود الإمبراطور هوانغ، المتأهبين منذ آلاف السنين في مدينة شيان الصينية، لا يرف لهنَّ جفنٌ، وتكاد لا تسمع سوى أنفاس مُتعبة، فتحوّل السلاح في أيديهنَّ إلى قطعة من الجسد، وحكاية عشق، لبندقية الشرف والتضحية والوفاء.
قالت والدمع بلل خدّيها : “سيدي أنا أحترق”
انت تعلم كم كنت فرحةً وفخورةً بانتمائي إلى مؤسسة الجيش، وأنا ما زلت كذلك، لكن بداخلي بتُّ أحترق، أحترق قهراً على نفسي وعائلتي وعلى أهلي وعلى وطني وكل مواطن فقير فيه.
أنا أنهض في الساعة الخامسة فجراً أسابق الوقت لإعداد بعض الطعام لأطفالي، وأعدّهم للذهاب إلى المدرسة، ثم أصطحب طفلي هذا إلى حضانة خاصة، فهو يعاني من مشكلة البكم، ومنذ شهر أُصيب بالتهاب رئوي، وكنت أعالجه في الطبابة العسكرية، والآن كما تعلم باتت أنواع كثيرة من الأدوية غير متوافرة في الجيش، والطبيب المختص قالوا لي أنه ترك العمل في الجيش وغادر لبنان، وأنا مُجبرة أن آتي إلى عيادة خاصة، وكما ترى، لقد دفعت نصف راتبي للطبيب (مليون ليرة الفحصية) .
اختنقت الكلمات بين شفتيها وهي تقول: ما زلنا في بداية الشهر، وابني يحتاج إلى حليب وادوية ولوازم عديدة، وبيتي شبه فارغ، والمدرسة تهدد بطرد أولادي إذا لم نسدد ما يتوجّب علينا من أقساط.
سيدي قل لي ماذا سأفعل براتبي الذي لا يساوي ستين دولاراً؟ والبنك لا يعطيني منه سوى خمسين دولاراً فقط، بحجة عدم وجود فئات صغيرة من الدولار لديهم؟؟؟ وأنا أشعر أنّهم يتعمّدون إذلالنا، نحن العسكريين، وعن قصد أحياناً!!!
أسابق الوقت كل يوم وأنا قلقة من أن أتأخّر، وتفوتني حافلة الجيش، وأنا لا أملك النقود لأدفع أجرة الطريق للوصول إلى عملي. وزوجي موظف متعاقد أيضاً، لا يتقاضى راتبه إِلَّا في نهاية العام، ومع غلاء أسعار السلع والوقود، أصبح راتبه لا يكفي لشيء.
سيدي أستطيع أن أتحمّل شظف العيش، لكن لا يمكنني تحمّل ألم أطفالي، ودموعهم عندما يقفون أمام دكان، وأنا عاجزة عن شراء قطعة حلوى لهم، لا بل أكثر من ذلك عندما لا أجد في منزلي ما يسد رمقهم وجوعهم، سوى بعض الأرز وما شابه، وهم ينظرون إلي بحسرة وعيون حزينة.
أعلم أن غالبية رفاقي العسكريين هم مثلي يعانون، ولكني عندما سمعت رئيس حكومتنا يقول: أن ليس لديه أموال في البنوك اللبنانية، وأن ثروته الطائلة هي في الخارج، ورغم ذلك استفاد من قروض إسكانية بمبلغ 15 مليون دولار من بنوك لبنان، وهو يعيدها الآن إلى الدولة بسعر 1500 ليرة للدولار، ونحن نسكن في منزل مستأجر، شعرت بالأسى على نفسي، وعلى رفاقي، وعلى شعبي، وعلى وطني، وما أريد قوله لرؤساء البلاد: تخيّلوا للحظة أنني ابنتكم.
“سيدي أنا أحترق!!! لا بل أختنق” فهل يعلمون بحالي وحال رفاقي؟؟؟!!!
ثم ابتسمت ومسحت دمعتها وقالت : ما زلت أذكر معسكر التدريب، فرغم قساوتها كانت أياماً جميلة! نحن آمنّا بالوطن وأقسمنا يميناً بالحفاظ عليه والذود عن ترابه، وغيرنا نهب الوطن وأكل خيراته.
ولم تغب الدعابة عن محيّاها فأضافت تقول: وتلك القصيدة، لنزار قباني التي كانت معلّقةً على لوحة الحائط، ما زلت أذكرها وأحفظها حتى اليوم ، لقد كنت مُغرمةً بوظيفتي الجديدة، وربما ساذجة وبسيطة، لكنني كنت فرحة جداً.
“البنادق والعيون السود” الآن تعودين من معسكر التدريب , وأنتِ كالراية المتعبة , كالزورقِ العائدِ من رحلةِ مجد .عيناكِ النقيتانِ كأمطارِ ليلةٍ أفريقية , قميصُكِ المعقودِ الأكمام، الذي تركت عليه البندقية بقعاً من الزيت، أطهر من زيت المعابد .. أطهر من الطهر ..غطاءُ الرأس الجامح على شعرٍ فوضى، لباسك المعجون بذرات التراب , ورؤوس الشوكِ , ورائحةِ الأرض . جوربك الصوفي الخشن , راحتاك الملوثتان بشحم الزناد , حذاؤك الآكل من جبين الصخر يترك على أرض الحجرة قطعاً من طين يابس هي أثمن ما تضمهُ حجرتي من تحف . أرأيتِ كيف تنتقل بلادي إليّ . كيف تتحول إلى ذرة غبار على قميص شجاع .
إنني معجب بهذه الكدمة الصغيرة التي تركها الزحف على التراب فوق مرفقكِ . معجب برائحة اللاشيء .. نعم برائحة اللاشيء تصدر عن فتحة قميصك المتعب .. بأظافرك التي كسرها قتال الخنادق واحداً .. واحداً .. معجب بما حملت معك من معسكر التدريب من تعب .. وغبار .. وقطرات عرق …
فيا صديقتي .. يا ذات القميص المعقود الأكمام .. والشعر الفوضى , والفم المصبوغ باللاشيء .. والكدمة الصغيرة التي تُضَمُّ وتُعبَد .. سلامٌ عليكِ
سلام على الوطن
سلام على لبنان.