بعد ٣١ تشرين، التيار الوطني الحر: حساب الحقل لا يطابق البيدر
بقلم: اكرم كمال سريوي

النشرة الدولية –

الثائر –

بعد ست سنوات من تجربة الحكم في لبنان، واختبار كل التناقضات الداخلية، وخوض حروب ومغامرات على كل الجبهات في الداخل والخارج، يعود العماد ميشال عون إلى الرابية، مثقلاً بالجراح والندوب وخيبات الأمل، التي تركتها الفترة الرئاسية في جسم الوطن وشعبه والتيار العوني، ففترة الحكم التي أرادها الجنرال أن تكون صفحة مشرقة، انقلبت مأساة حقيقية حالكة، وربما الأشد سواداً في تاريخ لبنان الحديث.

الأسباب عديدة!!! وتعدادها يحتاج إلى أكثر من مطالعة وكتاب، فتركيبة الحكم في لبنان منذ نشأته وحتى اليوم قائمة على توازنات مذهبية، وامتيازات طائفية، منعت قيام دولة حقيقية، وأفشلت كل المشاريع الإصلاحية، وأفرزت تيارات سياسية تتمحور حول شخصية الزعيم، ولم يكن لديها مقومات الأحزاب الحقيقية، فصاغت لنفسها بعض الشعارات العامة، والمبادئ البرّاقة، التي بقيت عذرية، وغير قابلة للتطبيق، لكنها في الواقع بنت سياستها على العصبية الطائفية، والخوف من الآخر، وإثارة مخاوف التهميش والإلغاء والكسر، وسَجنت الأنصار في دائرة الهواجس والقلق على المصير، وباتت الطائفة تُختصر بشخص، ومصير الجماعة والوطن مُعلّق به وعليه.

يرتبط الشارع العوني كغالبية القوى السياسية اللبنانية بشخص العماد ميشال عون، الذي مثّل سابقاً حالة تمرّد في وجه الهيمنة السورية على لبنان، ورسم صورة القائد القوي الذي لا يُكسر،

وشكل نفيه إلى فرنسا وإدخال سمير جعجع إلى السجن، حالة إحباط لدى المسيحيين، ولم تتمكن القيادات الضعيفة، التي نشأت بعدها، من ملء الفراغ ، وبقيت تدور في الفلك السوري، مما جعل القاعدة الشعبية تلتف أكثر حول شخصية الجنرال، وتنتظر عودته رافعاً راية النصر.

حظي الجنرال بفرصة ذهبية بعد عودته من فرنسا، ونال في الانتخابات أصوات غالبية المسيحيين، مستفيداً من فكرة المظلومية، وتهميش الدور المسيحي خلال مرحلة غيابه والحكم السوري للبنان. لكن دخوله معترك ووُحُول السلطة وتقاسم الحصص، بدأ يأكل من رصيده شيئاً فشيئاً.

وانتهج الجنرال بعد عودته سياسة معاكسة تماماً لما نادى به سابقاً من باريس، حيث كان يجاهر بالعداء لسوريا وإيران وحلفائهما، ويدعو إلى تحرير لبنان من هذه الهيمنة، وبناء

دولة مستقلة، وتسليم السلاح غير الشرعي للجيش، ثم عاد بعد كل ذلك وعقد تحالفاً مع قوى الثامن من آذار، للوصول إلى الحكم.

دفع هذا الموقف بعض رفاق الجنرال إلى الابتعاد عنه، لكن بقي القسم الأكبر من مؤيديه إلى جانبه ولم يتخلوا عنه، فبعض هؤلاء كان طامعاً بمنصب أو وظيفة، لكن قسم آخر كان وما زال مقتنعاً بصورة الجنرال القائد.

منذ أن وصل عون إلى بعبدا على كتفي؛ التسوية مع سعد الحريري، واتفاق معراب مع سمير جعجع، جعل الهدف الأول لولايته تثبيت زعامة جبران باسيل من بعده، وأوكل إليه صلاحيات ليست من حقه دستورياً، فتحول باسيل إلى رئيس ظل، وبات أشبه بالسلطان سليم في عهد بشارة الخوري.

البعض من المقربين لباسيل يصفونه بأكثر من شخصية!!!

فباسيل في اللقاءات الاجتماعية شخص طيب وودود، لكن عندما يُطل على شاشة التلفزيون، يصبح شخصاً آخر ، وغالباً ما تّتسم خطاباته بالطائفية، ومحاولة شد العصب، حتى لو استلزم ذلك الحفر في زوايا التاريخ، ونبش كل الأحداث المؤلمة والضغائن.

وتحت عنوان “استعادة حقوق المسيحيين” خاض باسيل معاركه، حتى مع الأحزاب المسيحية، فصادر لمصلحة التيار، كل الوظائف والحصة المسيحية في الحكم، ولم يترك لا للأخصام ولا للحلفاء سوى النزر القليل، فدفع سلوكه الأناني هذا إلى إبعاد الكثيرين عن التيار، كما كانت خطاباته الاستعلائية والعدائية، كفيلة برفع شعبية أخصامه في أغلب الأحيان.

وحتى مع حلفائه ورفاقه في التيار، كان باسيل استفزازياً وسادياً، وفي الفترة الأخيرة من عهد الرئيس عون اتهمه بعض من ترك التيار، بأنه شخص أناني ومتعجرف ومزاجي، لا يقبل النقد، وهذا ما دفع بهم إلى ترك التيار .

ترك قسم من العونين التيار بسبب انقلاب عون على مبادئه كما يقولون، ولكن غالبية الذين تركوا التيار مؤخراً، كان السبب خلافهم مع جبران باسيل، حتى مَن هم ضمن الكتلة النيابية للتيار اليوم، غير راضين عن سلوكه وطريقة تعامله معهم، فليس روكز وحده من رفض أن ينقاد لباسيل، بل هناك شخصيات عديدة ممتعضة من سلطته المطلقة، وإن شعرة معاوية، التي حافظوا عليها معه حتى الآن، قد تنقطع في وقت قريب.

يقول قائد سابق في التيار: يمارس باسيل تسلطاً حتى على أقرب المقربين، ويحيط نفسه بجماعة من المتملقين الضعفاء غير الكفوئين، وهو يخشى الأقوياء في التيار، ولذا حاول دائماً إقصاءهم والتخلص منهم.

ويضيف: إن هذا هو أيضاً سبب محاربة باسيل لقائد الجيش العماد جوزيف عون، الذي اختاره في الأصل الرئيس ميشال عون كقائد يثق به، لكن باسيل يعلم أن شخصية مارونية قوية كقائد الجيش، يتمتع بهذا القدر من الشجاعة، والاستقلالية، والحزم، والكفاءة، في القيادة، هو دون شك منافسه الأول، ليس على كرسي رئاسة الجمهورية وحسب، بل على زعامة المسيحيين، وتحديداً جمهور التيار العوني، الذي بدأ قسم كبير منهم يخرج من صفوف التيار، ويلتحق بمؤيدي قائد الجيش.

وما زاد من مخاوف باسيل، هو النجاح الذي حققه العماد جوزيف عون في قيادة الجيش، خاصة بعد اندلاع الأزمة في لبنان، فهو أظهر حكمة وعقلانية وموضوعية في معالجة الأحداث، وحاز ثقة واحترام الأطراف في الداخل والخارج، وباتت حظوظه الرئاسية هي الأقوى، بين كافة المرشحين الموارنة المطروحين اليوم.

لن يكون الرئيس عون في الرابية كما كان في بعبدا:

أولاً لأنه سيخسر صلاحياته الدستورية، بعد ٣١ تشرين الأول.

وثانياً: لأن طريق الصعود تختلف كثيراً عن طريق المنحدر، خاصة مع شعب يسترشد بالمصلحة الشخصية، ويضعها فوق المبادىء، والوطنية، وأي اعتبار آخر، لتصحَّ على كل من يترك السلطة في لبنان، أغنية هيام يونس «ما أكثر حبابي لما كان كرمي دبس،. وما أقل صحابي لما كرمي يبس»

والأهم من ذلك، أن خليفة الرئيس وصهره جبران، حاول استغلال موقع رئاسة الجمهورية، لتحطيم وإبعاد أي شخصية مارونية، قد تنافسه على هذا المنصب، فأكثر حوله الأخصام والأعداء، وأبعد عنه الكفاءات، وقرّب المتملقين، وإذا كان صحيحاً أن التيار سيستمر طالما الجنرال عون موجود، وهو لديه كتلة نيابية وازنة، وتحالف متين مع حزب الله، لكن الصحيح أيضاً، أن المرحلة القادمة ستشهد المزيد من الأنقسامات والخلافات داخل التيار، وباسيل لن يكون قادراً على ملء مكان ميشال عون، ولا الجنرال قادراً على تقديم المزيد لمؤيديه، ولا لباسيل، فلقد استنفذ كامل طاقته خلال ست سنوات من الحكم، كانت مليئة بالمآسي على هذا البلد الصغير وشعبه، وأدخلته سياسة الكيد والتعطيل، في نفق أزمة اقتصادية خانقة، قادته إلى قعر جهنم.

وبالمحصلة فلن تطابق حسابت الحقل الباسيلي، غلة البيدر، التي سحبها نمل السمسرات والصفقات، وباتت أكوام قش فارغ، لا يصلح لزرع موسم جديد.

يقول البعض من الظلم تحميل باسيل والعهد مسؤولية هذا الانهيار، ولكن في الحقيقة فإن الأكثر جوراً وظلماً، هو إعفاء من حكم البلد لست سنوات، من هذه المسؤولية، ومنحه صك البراءة.

لقد حكمت ليز تراس بريطانيا لأسابيع، ولكنها تحمّلت المسؤولية عن أزمة اقتصادية بدأت منذ سنوات، واستقالت من منصب رئيسة الوزراء، عندما فشلت خطتها في المعالجة، وسلمت السلطة والحزب لريشي سوناك الهندوسي، احتراماً لشعبها ووطنها.

هل سنتعلم في لبنان يوماً، أن قول كلمة الصدق أفضل من مجلدات رياء؟؟؟ وأن المحاضرات في العفة لا تمحو الذنب، ولن تبدّل حقيقة الجرم ؟؟؟

وهل يمكن أن نفهم أن الإصلاح الحقيقي يبدأ من الذات؟؟؟

وقمة الحكمة أن يراجع المرء أخطاءه قبل نقد الآخرين ولومهم؟؟؟

غداً يذهب رئيس ويأتي آخر، وتُقرع الطبول وتصدح الأبواق، لكن الأزمة باقية مستمرة، طالما بقي لبنان يرتدي عباءة التعصب والتمذهب، وشعبه يقدّس الأشخاص، ويربط مصيره ومصير الوطن بهم.

وسنبقى نحلم بوطن حقيقي، مهما قست الظروف، وسنعمل لتحقيق هذا الحلم الجميل، بكل عزم وإصرار، لأننا نؤمن أن الأشخاص والأحزاب والتيارات والمناصب، كلها تأتي وتزول، ويبقى الوطن.

زر الذهاب إلى الأعلى