هل تنفجر أزمة روسيا والغرب حرباً في أوكرانيا؟ وما هو السبب الخفي للأزمة؟
بقلم: اكرم كمال سريوي
النشرة الدولية –
وصف وزير خارجية روسيا علاقات بلاده الحالية مع واشنطن بالأسوأ منذ تاريخ الحرب الباردة، أمّا الرئيس بوتين فقال: يبدو أن الغرب لم يكتفِ بتفكُّكِ الاتحاد السوفياتي إلى إثني عشر جزءاً، وما زال يرى أن روسيا كبيرة أكثر من اللازم، ولذا يريدون تفكيكها أيضاً.
في مقابل ذلك دفعت واشنطن الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلنسكي، الذي وصل إلى الحكم عام ٢٠١٩ بخطاب معتدل تجاه روسيا، إلى اتخاذ مواقف متشدّدة وحادة، وتحاول أمريكا إرفاق ذلك بحملة إعلامية ضخمة، مع دول حلف الناتو، عن وجود حشود واستعدادات روسية لغزو أوكرانيا.
فما هي حقيقة تلك الحشود والمواقف؟ وهل ينفجر الصراع الروسي الأمريكي حرباً في أوكرانيا ؟ خاصة أن الجبهة في دومباس لا تزال مفتوحة، واليد على الزناد؟ وما هو السبب الحقيقي لهذا التصعيد الأمريكي، الغير مسبوق تجاه روسيا؟
أولاً: سنعود قليلاً إلى بعض الوقائع التاريخية، لفهم حقيقة ما جرى ويجري بين الخصمين اللدودين .
يُثبت التاريخ العسكري أنه لا يمكن فصل الحروب عن الاقتصاد، وبتعبير أدقّ، عن الأزمات الاقتصادية . فمنذ القِدَم معظم الحملات والفتوحات كانت تُشنُّ بسبب وصول الاقتصاد إلى عنق الزجاجة، عندما يختل التوازن بين الانتاج والإستهلاك، ثم بين العرض والطلب، فيحلُّ الكساد، وينعكس ذلك على الأسواق المالية، التي تتأثر بسرعة فائقة، كونها في الأصل قائمة على وهم القيمة، الذي لا يساوي شيئاً في حقيقته.
فالفرق مثلاً بين ورقتي الدولار والمئة دولار ، هو مجرد رقم تمت طباعته على أوراق لا تختلف عن بعضها بشيء، ولكن اكتسب الرقم قيمته من جراء معاملات التبادل التجاري، الذي اعتادها الناس ورسخت في أذهانهم .
ثانياً: بريتون وودز وعبقرية هاري ديكستر وايت.
بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية كانت أوروبا وغالبية الدول، التي دارت الحرب على أراضيها، مُدمَّرةً بشكلٍ شبهِ كامل، واحتاجت هذه الدول إلى الأموال لإعادة الإعمار والنهوض الاقتصادي . استغلّ الأمريكيون الفرصة وعقدوا اتفاقية في تموز 1944 عُرفت باتفاقية “بريتون وودز” حضر المؤتمر 44 دولة، وتمكّن رئيس الوفد الأمريكي هاري وايت (وهو من أصول يهودية هاجر أهله من ليتوانيا) الذي كان يشغل منصب مدير الخزانة، أن يفرض رؤيته على المؤتمر، فقدّم عرضاً رفضه في البداية الأوروبيون، ولكن ستالين عاد ووافق عليه بعد أن نال وعداً بتقديم مساعدة بقيمة ١٦ مليار دولار، ثم عاد ورفضها لاحقاً، بنصيحة من وايت نفسه، ( الذي تمت محاكمته فيما بعد، بتهمة التجسس للسوفيات، بعد أن تم تفكيك شيفرة اتصالاته، التي كانت تحت مُسمّى “مشروع فينونا”) ، وذلك لأن الأمريكيين اشترطوا أن يودع الاتحاد السوفياتي احتياطه الذهبي لديهم.
وافق الأوروبيون مرغمين على الاتفاقية، التي كرّست ثلاث أمور غيّرت العالم:
١- اصبح الدولار الأمريكي هو محور النظام المالي العالمي، ومرجعاً لاحتساب قيمة عملات الدول الأعضاء.
٢- تم إنشأ صندوق النقد الدولي، برأسمال جُمع من الدول الأعضاء، ومهمته تنظّيم أسعار العملات، ومراقبة السياسة المالية للدول، وتقديم الاستشارات ومساعدات مالية قصيرة الأجل.
٣- تم إنشاء البنك الدولي الذي سيتولّى تقديم قروض طويلة الأجل للدول الأعضاء، لتنفيذ مشاريع إعادة الإعمار، وهي عملية تُشبه نقل الأموال من جيب هذا إلى جيب ذاك، بفوائد طويلة الأمد، أسفرت غالباً عن إغراق للدول الضعيفة في الديون، لتجد هذه الدول نفسها لاحقاً، رهينة لقرارات البنك الدولي وسياسات صندوق النقد، وتتحول بسرعة إلى رهينة سياسية لدى الدول الكبرى، وعلى رأسها أمريكا.
تم تنفيذ الخطة عبر “مشروع مارشال” الذي ارتكز على تقديم القروض والمساعدات لهذه الدول، مقابل رهن احتياطها من الذهب لدى أمريكا. وتم الاتفاق على إعادة هذا الذهب لاصحابه، متى شاؤوا، مقابل دفعهم بالدولار، مبلغ 35 دولاراً ثمناً لكل أونصة.
كانت التغطية الذهبية للعملات هي محور تحديد أسعارها مقابل الدولار، الذي كان يحظى بتغطية ذهبية أيضاً، لكن عام ١٩٥٥ دخل الأمريكيون الحرب في فيتنام، واحتاجوا إلى مزيد من النقود، فقاموا بطباعة كميات من الدولارات سراً، لتغطية نفقات الحرب، فأثّر ذلك طبعاً على حجم السيولة النقدية في السوق.
عام ١٩٧١ طلب الرئيس الفرنسي شارل ديغول، استعادة ذهب بلاده وفقاً للاتفاق، لكن الأمركيين رفضوا ذلك، لعلمهم أن هذا الأمر سيشجع الدول الباقية على فعل الشيء عينه، ولقطع الطريق على تلك الدول، أعلن الرئيس الأمريكي ريتشارد نيكسون عام ١٩٧٣ تحرير الدولار من التغطية الذهبية. وكانت دول العالم قد أودعت في بنوكها المركزية، كميات ضخمة من الدولار الورقي، وباتت أمام خيارين: فإما رفض القرار الأمريكي وخسارة ما لديها من دولارات، وإمّا القبول بالإجراء الأمريكي وعدم التعرض لأزمة مالية، فاختارت طائعةً القبول بالقرار. ومنذ ذلك التاريخ حتى اليوم، خسر الدولار من قيمته أربعين ضعفاً، فيما ارتفع سعر أونصة الذهب من ٣٥ دولاراً إلى حوالي ٢٠٣٥ دولاراً اليوم.
ثالثاً: كيسنجر وفكرة البترو دولار
عَلِمَ كيسنجر أن الدولار لن يصمد طويلاً دون غطاء ذهبي، وأن الدول التي وافقت مُرغمة على الإجراء الأمريكي، لا بد أن تبحث عن وسيلة للتخلّص من أوراق لا تساوي شيئاً .
توجّه كيسنجر عام ١٩٧٤ إلى السعودية، وهناك أقنع الملك فيصل باتفاق من ثلاتة بنود:
١- تعتمد السعودية الدولار كعملة وحيدة لبيع وتحديد سعر البترول.
٢- تتولى السعودية إقناع دول أوبك بهذا الأمر.
٣- تشتري السعودية بأموال النفط سندات خزينة أمريكية، وتودع ما لديها من فائض أموال لدى أمريكا،
وفي مقابل ذلك ستحصل السعودية على حماية عسكرية مطلقة من أي عدوان، وسيتم نشر الأسطول الأمريكي قرب شواطئها لضمان ذلك.
ولكن تلك البوارج لا تعمل بالمجان، وهي تُكبّد الخزينة الأمريكية مبالغ طائلة، ولا بد من استيفائها، وهذا ما أوضحه الرئيسي الأمريكي السابق دونالد ترامب لولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان، عندما زار الأخير واشنطن في آذار عام ٢٠١٨.
نجحت خطة كيسنجر، فأصبح هناك تغطية جديدة للدولار بواسطة الذهب الأسود، الذي سيُقتل لاحقاً كل من يُفكّر بالمسِّ بهذا المبدأ.
رابعاً: سبب سقوط صدام وقتل القذافي
في منتصف أوكتوبر عام 2000 قرر صدام حسين الخروج على اتفاق كيسنجر، وبيع النفط بالعملة الأوروبية ” اليورو” بدلاً من الدولار، وهدد بوقف صادرات العراق النفطية اذا لم توافق الإدارة الأمركية على ذلك. وكان العراق يُصدّر 3,2 مليون برميل يومياً ضمن برنامج النفط مقابل الغذاء، والحصار المفروض على العراق، بحجة أن لا تذهب تلك الأموال إلى التسليح، بل الى الغذاء والدواء للشعب العراقي، في أكبر عملية ابتزاز سجلها التاريخ الحديث على شعب بأكمله.
لم يكن أمام الإدارة الأمريكية من خيار سوى الموافقة، لأن وقف تصدير هذه الكميات سيهزّ أسواق النفط، فقبلت مرغمةً وحوّل صدام حسين مبلغ 10 مليار دولار إلى يورو، مما تسبب لاحقاً بخسارة الدولار نسبة 17% من قيمته، وارتفع سعر برميل النفط، من 85 إلى 95 دولاراً .
في تلك اللحظة اتُّخِذ قرارُ إعدم صدام حسين، فتم تجنيد الإعلام العالمي، الذي وصف نظام صدام بالنازية الجديدة، وصُوّر جيشه (المنهار) على أنه رابع أقوى جيش في العالم، وأنّه يقوم بتصنيع أسلحة نووية، وأنّه سيهاجم أوروبا. وتجنّدَ المحللون العسكريون الاستراتيجيون، لشرح خطط صدام لاجتياح أوروبا وتدمير العالم، وما إلى ذلك من تلفيقات، سحرت الرأي العام العالمي، فقادت الولايات المتحدة الأمريكية حرباً لاجتياح العراق، عارضتها طبعاً الدول الأوروبية، خاصة فرنسا والمانيا، لكنّها لم تكن قادرة على منع الغزو، فقرارات سيد العالم لا تُردَّ، وانتهى الغزو كما نعلم جميعاً، بإعدام صدام حسين، وفوضى عارمة في العراق والمنطقة.
رجل آخر تجرأ على ارتكاب خطأ مميت،
إنه معمّر القذافي، الذي اقترح إنشاء العملة الأفريقية الموحّدة، ورفض بيع شركة النفط الوطنية الليبية للغرب، وراح يشاكس، فلقي المصير ذاته لصدام حسين.
خامساً: تمرُّد بوتين، وسيناريو الدمار الشامل
بعد غزوة جورجيا، انتزع فلاديمير بوتين القرم من تحت السيادة الأوكرانية، باعتبارها أرضاً روسية، وقدّم دعماً للانفصاليين في مقاطعتي دونباس ودونياتسك. وطبعاً هذا لا يهم الولايات المتحدة فعلياً بشيء، فقط يمكن استخدام الأمر للضغط على روسيا، فكانت العقوبات الغربية، التي لم تؤتِ ثمارها، لأن روسيا أقوى من أن يتم إخضاعها بسهولة.
فماذا فعل بوتين؟
١- في المؤتمر الأخير لدول منظمة الأمن الجماعي، قال الرئيس الكازاخستاني قاسم توكاييف: “إنه لا جدوى من اقتناء الأسلحة النووية، وأنها لن تُطوّر اقتصاد البلاد”. فردَّ عليه بوتين ممازحاً: “صدام حسين فكر كذلك أيضاً” .
عمدت روسيا إلى تطوير أسلحتها، وأصبحت الصواريخ الروسية الفرط صوتية، هي الأسرع في العالم، وقادرة على الوصول إلى أمريكا خلال ١٥ دقيقة فقط. ودون دخول في التفاصيل العسكرية، فإن صاروخ “أفانغارد” مثلاً، قادر على الوصول من موسكو إلى لندن في أقل من خمس دقائق.
قال الرئيس بوتين: ليس لدينا في عقيدتنا القتالية فكرة هجوم استباقي، لكن نحن في حال تعرضنا لهجوم، يمكننا تحديد؛ نقطة انطلاق الصواريخ، ومسارها، والنقطة المستهدفة، خلال بضعة ثوان، وسينطلق ردنا في أقل من دقيقة، وسيكون قاسياً جداً.
لن يبقى شيء من العالم في حال اندلعت الحرب، فهل يمكن تخيًل ذلك؟؟ ومن هو المجنون الذي سيتّخذ هذا القرار المدمّر للعالم؟
من الناحية العسكرية يحتاج الناتو إلى الاقتراب أكثر من الحدود الروسية، وهنا تكمن أهمية كييف، لكن الجميع يستبعد الخيارات العسكرية، ولذا فالمشكلة هي في مكان آخر.
عقدت روسيا اتفاقات ثنائية مع كل من؛ الهند، وإيران، والصين، لتبادل السلع بالعملات المحلية، خارج إطار الدولار واليورو. وتمكّن بوتين، رغم العقوبات، من تنفيذ مشروع أنبوب غاز “نورد ستريم-2” ، والآن هو ذاهب إلى الصين، بمشروع لتوحيد العملة بين البلدين.
هذا هو المشروع الأخطر على أمريكا وأوروبا، لأن دول عدة ستنظم إليه لاحقاً، وهذا سيُنزِل الدولار عن عرشه، والأخطر من ذلك، لن يعد ينفع أمريكا طِباعة المزيد من الأوراق الخضراء، وبيع هذا الوهم للعالم، ودفعه لهم لقاء أخذها ثرواتهم الحقيقية، من نفط وذهب ومعادن وغير ذلك.
سادساً: أوكرانيا تدفع الثمن!!!
ما يفعله بوتين تجاوز المقبول لدى حكام أمريكا، والآن تتم شيطنة روسيا، وتجنّد الاعلام الغربي بالكامل، للحديث عن خطر روسيا وتهديدها للأمن في أوروبا والعالم. يتم استغلال الوضع في أوكرانيا، لتهديد روسيا، بضم جارتها إلى الناتو. هذا الحلف الذي بات يخدم قضية واحدة، هي الحفاظ على زعامة وقيادة أمريكا للعالم،خاصة القارة العجوز (أوروبا)، ليس بالمعنى العسكري فقط، بل بالمعنى الأعمق، أي الاقتصاد.
لقد تحوّل الدولار إلى أهم سلعة يتم تداولها عالمياً، وتم فرض هذا الأمر بالقوة. فالجميع يسعى لتكديس الأوراق الخضراء في البنوك المركزية والمصارف والبيوت ، وماذا لو انهار عامل الثقة هذا، واكتشف البشر أن لا قيمة لمقتنياتهم تلك ؟؟؟ ماذ سيحدث لأقوى دولة في العالم، لو عجزت عن طبع المزيد من الأوراق النقدية، لتغطية نفقاتها الهائلة، في موازنات سنوية تتجاوز وفق مقترح الرئيس جو بايدن لهذا العام، ستة ترليونات دولار ؟؟؟
هذا هو سر المعركة الحقيقية، ففي مفهوم العالم؛ السياسة والجيش يكونان في خدمة الاقتصاد، وليس العكس، كما فعل صدام حسين، الذي جعل اقتصاد بلاده في خدمة السياسة.
عندما تصل الأزمة الاقتصادية إلى عنق الزجاجة، لا أحد يضمن عدم الإنفجار، وإذا كانت الحرب الشاملة وفق تصريحات جميع القادة مستبعدة، تبقى الساحة الأوكرانية مفتوحة لتصفيات الحسابات، وتبادل الرسائل، التي قد تُسفر عن إعادة تجربة اقتسام المانيا، فيتم اقتسام أوكرانيا. وقد نشهد جدار برلين جديد، سيدفع ثمنه هذه المرة، الشعب الأوكراني لسنوات عديدة.