الرّحّالة سناء الشّعلان تبحث عن عشبة السّعادة في جبال الهيمالايا
النشرة الدولية –
بقلم الأديب والنّاقد: عباس داخل حسن/ فنلندا
“إنّ من يفتح قلبه للمحبّة يستطيع أنْ يسمع بقلبه، وأنْ يحفظ في ذاكرته”: القدّيس أوغسطين
في البدء لا بدّ من الاعتراف بأنّني قد بلغتُ غاية مرادي من إلحاحي المستمرّ على د. سناء الشّعلان في مناسبات عديدة بأنْ تكتب عن رحلاتها المتعدّدة، وهي قد بلغت العشرات بوصفها أستاذ زائر وضيف شرف في الكثير من الجامعات العربيّة والعالميّة، والمؤتمرات العربيّة والدّوليّة والفعاليّات الثّقافيّة والفكريّة المتعدّدة، أو عبر أسفارها المتعدّدة الأغراض والمناسبات الثّقافية التي تُدعى إليها، مثل إشهار أعمالها الأدبيّة، أو فوزها بجوائز إبداعيّة ونقديّة وبحثيّة، أو ترجمة بعض أعمالها الأدبيّة، أو حضور مناقشة رسائل جامعيّة عن إعمالها؛ إذ لم تحظ أديبة عربيّة معاصرة بما حظيتْ به الدّكتورة سناء الشّعلان من اهتمام بحثيّ ونقديّ بأعمالها الإبداعيّة التي كانتْ موضوعاً لدراسة عدد من الرّسائل الجامعية “الماستر/ والدكتوراة”؛ إذ أجزم أنّ لها حصة الأسد بين الكتّاب العرب المعاصرين في هذا الشّأن، وما زال هناك الكثير من الدّراسات قيد الإنجاز في حوزة طلبة الدّراسات العليا عن أعمالها في ماليزيا والهند وباكستان وأوروبا وأمريكا والجامعات العربيّة.
وفي كلّ مرة تكتب إضاءات مقتضبة، أو تنشر صوراً توثيقيّة، أو مقاطع You Tube”” لأسفارها التي تثير فضولي، وتجعلني ألحّ عليها من جديد بأنّ تشرع في كتابة أخبار رحلاتها وأسفارها وتطوافها في الأرض؛ وجوهر إلحاحي هو إيماني العميق والمخلص بأنّ النّصوص هي أقوى المنجزات التي تبقى مع الأركولوجيا؛ فلولا رقم الطّين والكتابة على الحجر قبل اختراع الورق والطّباعة، لما حُفظتْ حياة الحضارات القديمة الأولى وإنجازاتها، لتكون بين أيدينا اليوم، وعلى الرّغم من رغم ذلك ضاع الكثير منها؛ ممّا أحدث فراغات قاهرة، وبقيت حلقات مفقودة تنكأ توقنا للألغاز المؤرّقة لوجود الإنسان الأزليّ، وتثير هباب أسئلتنا الوجوديّة عن ذواتنا، وعن الآخر وتاريخ المجتمعات الأولى التي بنتْ أعظم الحضارات الإنسانيّة التي لم نفكّ أسرارها جميعاً.
إنّ أوّل رحلة مدوّنة في التّاريخ هي رحلة كلكامش التي تُعدّ حجر الأساس العظيم للملحمة الإنسانيّة الأولى؛ فهي رحلة البحث عن عشبة الخلود ومعنى الإنسان والموت، ومن بعد توالت رحلات الأنبياء، كما تروي قصص الأنبياء والكتب السّماويّة.
إنّ طبيعة التّرحال ذات طبيعة بشريّة سببيّة في بحث الإنسان عن مبتغاه ووجهته التي يرومها؛ لتحقيق غرضه الذي يريد الظّفر به، ويغامر من أجله متحمّلاً عناء السّفر ومخاطر المغامرات المميتة أحياناً.
“هو الذي رأى كلّ شيء، فغني بذكره يا بلادي
وهو الذي عرف الأشياء جميعها، وأفاد من عبرها
وهو الحكيم العارف بكلّ شيء
لقد أبصر الأسرار، وعرف الخفايا المكتومة
وجاء بأنباء أزمان ما قبل الطّوفان
لقد أوغل في الأسفار البعيدة حتى حلّ به الضّنى والتّعب
فنقش في نصب من الحجر كلّ ماعاناه وماخبره” (1)
لقد آمنتُ بأنّ ما تنشره الرّحالة سناء الشّعلان من إضاءات ومقتطفات مقتضبة عبر الوسائل التّواصليّة المتاحة لنا ينطوي على الكثير من الاكتشافات والمشاهدات القيمة ثقافيّاً ومعرفيّاً، لكنّها مبتورة، وأنّ ما وراء الأكمة ما ورائها من سيل جارف من المغامرات والمواقف والمرئيّات التي تكتنزتها الشّعلان في ذاكرتها وإرشيفها من خلال لقاءاتها ومشاهدتها الحيّة لأماكن لطالما شغلتْ خيالنا، وقرأنا عنها، وشدّ الرّحالة أمتعتهم إليها قديماً وحديثاً.
وفي كلّ مرّة ألحّ عليها للكتابة عن رحلاتها، يأتي جوابها المحبط لي: “لا أحبّ أدب الرّحلات؛ إذ لم يأتِ بجديد، كما أنّني لا أحبّ كتابة المذكّرات أو السّير الذّاتيّة”.
وأخيراً ذات مساء مفاجئ لي وجدتُ على بريدي الالكترونيّ رسالة من سناء الشّعلان ودعوة منها لي لقراءة فصل من “رحلة أمّ بطبوطة تُصلّي في جبال الهيمالايا”، ثم توالت النّصوص، وكلّ فصل يحمل غواياته الإبداعيّة والفنّيّة والجماليّة بأسلوب متأنّق في غاية التّرف، وفيه من الإمتاع ما فيه ممّا يستحقّ التّقريظ دون أدنى شكّ، ويجبرني على إعادة قراءته مرّات عديدة، وبقيتُ قابضاً على جمرة إلحاحي المستميت عليها بتزويدي بفصول أخرى من شدّة إعجابي بها، وشعرتُ بصرخة بداخلي تقول للشّعلان “ابقي على كرهكِ لأدب الرّحلات، واكملي كتابة الرّحلة”، وكتبتُ لها نصّ هذه الصّرخة، وأرسلتها لها على البريد الالكترونيّ، واستمر صيب الفصول يتوالى على بريدي الالكترونيّ من طرف الشّعلان.
بوصفي قارئاً وناقداً متابعاً للأديبة الدكتورة سناء الشّعلان، وصديقاً لها يقاسمها الكثير من الأفكار والآراء المشتركة، فلا يسعني إلاّ أنّ أهتبل هذه المناسبة لتقديم الشّكر والعرفان لها؛ لأنّها منحتني فرصة قراءة باكورة رحلاتها المدوّنة “أمّ بطبوطة تصلّي في جبال الهيمالايا” ولاستجابتها للكتابة عن رحلاتها؛ ليجد فيها القارئ متعة القراءة ولذّة موصولة؛ لما فيها من تنوّع واختلاف ومرآة صادقة في النّقل وتخطّي للكثير مما هو سائد ومألوف في أدب الرّحلات الذي خصّ الرّجال دون النّساء في عالمنا العربيّ إلاّ من استثناءات بعدد أصابع اليد الواحدة جاءت أغلبها على شكل مذكّرات أو سيرذاتيّة خالية من روح المغامرة للرّحالة بوصفهم مستكشفين.
تشكّل فكرة الارتحال مادّة أساسيّة للسّرد الرّحليّ من خلال البحث والاكتشاف من خلال دالة أساسيّة، ألاّ وهي المكان أو الأماكن، وما تحويه من مشاهدات يرويها الرّحالة لغيره بصفته صاحب النّصّ، وهي التي ينهض النّص عليها، وبتنويعات سرديّة تفرضها الأفكار ومقتضياتها ومهارة السّارد.
قلبتْ سناء الشّعلان معادلة اللاّحبّ، وهزمتْ كرهها لأدب الرّحلة، وأبدعت أروع سلسلة من رحلاتها المختلفة الأغراض والمتنوّعة، وهي تبحث بروح الرّحال العاشق عن عشبة السّعادة ومتعة المعرفة والعدالة لا الخلود.
ويتعذر عليّ الكتابة عن الرّحلات مجتمعة؛ فهي في حاجة إلى جهد جهيد وبحث طويل، ولن نفيها حقّها بعجالة وإيجاز، وتحتاج إلى دراسات بأكثر من مستوى؛ فهي سرديّة وقصص أدبيّة غاية في الرّوعة، وتحمل خصائص عديدة ومتنوّعة من المعارف التّاريخيّة والعلميّة التي تحتاج من القارئ إلى مقدار كبير من التّبصّر والبصيرة النّقديّة للحكم عليها؛ لهذا سأكتفي بالكتابة عن رحلة “أمّ بطبوطة تصلّي في جبال الهيمالايا” تاركاً ما تبقى للمستقبل والآخرين لدراستها وتقيمها، ولكلّ مجتهد نصيب.
رحلة “أمّ بطبوطة تصلّي في جبال الهملايا”:
شهد أدب الرّحلة تراجع وضمور لقرون عديدة، وبقي متداولاً على نطاق ضيق عند المهتمّين بالأدب والمؤرّخين والمختصّين في بعض العلوم الطّبيعيّة والطّبيّة والتّاريخ واللّغة، إلاّ أنّه عاد بقوّة في العقود الأخيرة من القرن العشرين، وبدأت الجامعات الإنسانيّة والعلميّة تهتمّ بتحقيق المخطوطات التّراثيّة للرّحالة الأوائل والمستكشفين، وبسبب ضيق المساحة هنا لا نريد الخوض في تعريف وخصائص أدب الرّحلة، فقد أُشبع تعريفاً ودراسة، وعظمتْ حظوظ أدب الرّحلة في دور النّشر والمسابقات الخاصّة بها، إلاّ أنّ كتابة الرّحلة بوصفها سرديّة بقيت تراوح بين المذكرّات السّيريّة، أو نصوص تسجيليّة، أو فرجة سياحيّة، وهذا النّوع من أدب الرّحلات لا يشبع فضول القارئ؛ لأنّه يخفق في نقل تجربة الرّحالة ومغامراته المنبثقة من الواقع الماديّ الذي يعيشه “زمكانيّاً” لاسيما عندما نكون في القارّة الهنديّة التي تتمتّع باختلافها المترعة بخصب وتنوّع إنسانيّ لا يجده المرء في أيّ مكان على أرض المعمور والمعلوم من الوجود إلاّ في الهند .
سيكتشف القارئ أنّ سناء الشّعلان قد تجاوزتْ غرض رحلتها بوصفها أستاذة للأدب الحديث ومهتمّة بالثّقافة وحقوق المرأة والطّفولة، وسعتْ إلى إشباع دوافعها بعيداً عن الرّغبة السّياحيّة، أو الفرجة السّطحيّة، كما دأب بعض الرّحالة المعاصرين على فعل ذلك؛ فهي قد سعتْ بإصرار إلى ملاحقة أصغر التّفاصيل المكانيّة بما تحويه من نشاطات إنسانيّة وكائنات حيّة، ثم قشّرتْ كلّ ما هو فائض درءاً للإطناب والحشو الزّائد دون إغفال لما يكتنف الهند من تنوّع لا محدود، الأمر الذي يفرض على الرّحالة الشّروط المُتعارف عليها في أدب الرّحلات بحذافيريّة كبيرة بتسجيل مشاهداتها بصدق ودقّة واختيار أسلوب خاصّ، وتشكيل خطابها الرّحليّ المختلف بما يتلاءم مع غرائبيّة القارّة الهنديّة وعجائبيّتها؛ إذ كانت وستبقى محطّ أنظار الرّحالة والانثربولوجيين منذ قرون قد خلتْ.
الانثروبولوجيون المعاصرون “الانثروبولوجيا علم حديث التّشكل” يتقاسمون معايير مشتركة مع الرّحالة المعاصرين في النّظر إلى مفهوم التّثاقف بوصفه مفهوماً خادعاً وراء السّعي لكشف الاختلاف من خلال تسليط الضّوء على “الحتميّات الثقافيّة” للمجتمع الهنديّ ودراسة مضامينها ومستوياتها ليس عن طريق الأفراد المتأثّرين بها في وقت ما، ومن هنا “نجد أنّ مادّة الرّحلة كثيراً ما تحتوي على العناصر الأدبيّة جنباً إلى جنب مع المعلومات الاثنوجرافيّة، وفق ما يذكر الدّكتور حسين محمد فهيم في مقدّمة مؤلّفه الشّهير “أدب الرّحلات”.
وإنّ الرّحالة بوصفهم اثنوجرافيين والاثنوجرافيين غدوا مثل رحالّة، ليصبح الطّرفان متجاورين في تقاسم أساسيّات المنظومة المعرفيّة للثّقافة الإنسانيّة أو المجتمعات المختلفة “إنّ الاثنوبولوجيا كلمة معرّبة تعني الدّراسة الوصفيّة لأسلوب الحياة ومجموعة التّقاليد والعادات والقيم، والأدوات والفنون، والمأثورات الشّعبيّة لدى جماعة معينة أو مجتمع معيّن، من خلال فترة زمنيّة محدّدة، وفي مقابل هذا المصطلح نجد مصطلحاً آخر هو الاثنولوجيا الذي يهتم بالدّراسة التّحليليّة والمقارنة للمادّة الاثنوجرافيّة بهدف الوصول إلى تصوّرات نظريّة أو تعميمات بصدد مختلف النّظم الاجتماعيّة والإنسانيّة من ناحية أصولها وتنوّعها، وبهذا تشكّل المادّة الاثنوجرافيّة قاعدة أساسيّة للبحث الأثنولوجيّ؛ فالأثنوجرافيا والأثنولوجيا مرتبطان؛ إذ تكمّل الواحدة الأخرى، وهما تشكّلان مجالين دراسيين مهمّين في إطار مجالات الدّراسات العامّة للأثنبولوجيا” (2)
من الالتفاتات التي تُحسب للرّحالة سناء الشّعلان أنّها لم تقرأ المتاحف والآثار قراءة تاريخيّة مجرّدة، بل غاصتْ فيها لتكتب عن تفاصيل التّفاصيل كما هو وقوفها عند ” تاج محلّ” ذي قصّة الحبّ الشّهيرة، ونقلت القصص بوجدانيّة وشغف؛ لأنّ القارئ بات يعرفها بوصفها أثراً ووجوداً مكانيّاً قائماً وموجوداً ومعروفاً في مشارق الأرض ومغاربها، وفي زمن أصبحت الصّورة بأشكالها جميعاً متاحة، ويمكن الحصول عليها ونحن في السّرير بسرعة فائقة وغير متخيّلة، وصولاً إلى تقنيّة “google earth” وقنوات الفضاء المفتوح.
من هنا تحتاج كتابة الرّحلة التي استفادتْ من التّقنيات الرقمية إلى سرديّة مختلفة “المغامرة السّرديّة” في ميكازينماتها وتقنيّاتها في سرد مراحل رحلتها ومغامراتها مرحلة مرحلة، بأسلوب محكم ورصين ومشوّق؛ لإغراء القارئ واستمالته، وهو من تشغله الصّورة، وتجذبه بقوّة إلى حدّ العزوف عن القراءة؛ فمشاهدة فيلم أو وثائقيّات فلميّة على أقراص مدمجة، أو في الحاسوب، أقلّ تكلفة، وأشدّ توفيراً للوقت من قراءة سرديّة رحليّة، لكن تبقى النّصوص أكثر مؤانسة ومتعة في إعادة التّخييل وصولاً إلى اللّذة المفارقة إلى حدّ الإدهاش .
إنّ مقولة الهند متحف للزّمان والمكان حقيقة لا جدال فيها حتى للمتلقي أو السّامع الذي لم يزر الهند، وقد حاولت الشّعلان تحقيق ذلك من خلال كتابتها السّرديّة في فصول غاية الرّوعة في التّصوير “الهند متحف البشر والمعمار” و”ألف طبق وطبق”، وعيد بعد عيد”، و” الأحمر بالأحمر والبادئ أجمل”، ونقلتْ مشاهداتها المبهرة بدقة وبحذاقة.
يبدو أنّ الهند تبهر كلّ زائر ورحّالة، حتى أنّها تبهر من يعيش في أكنافها ردحاً من عمره، وفي ذلك يقول الدّبلوماسيّ المصريّ المعروف “مصطفى الفقي” الذي أصاب كبد الحقيقة، وهو من قضى فيها جزءاً من حياته دبلوماسيّاً “إنّ الهند أمّة عظيمة لا تُؤخذ ببساطة؛ إذ في أعماقها تراكماً ثريّاً، وفي أحشائها الدّر المكنون”.
استطاعت الشّعلان أنْ تغوص عميقاً في المجتمع الهنديّ من أجل التقاط بعض درر تفرده، وما يحيط به من غرائبيّة وحكايات عجيبة إلى حدّ الخرافة والفنتازيا، وقد زارت الهند مرّات عديدة ولأغراض متعدّدة، وعلى الرّغم من ذلك كانت ضنينة على القرّاء بتدوين رحلاتها بقدراتها اللّغويّة المعروفة بتفرّد صورتها بإحساس ومشاعر غاية الرّوعة والصّنعة بروح محلّقة بثقة العارف لوجهته وغاياته المعرفيّة والإنسانيّة.
غنّت الرّحالة سناء الشّعلان مثل “غناء القوالي الموسيقى الكلاسيكيّة الصّوفيّة الهندوستانيّة في بناء ألحانها، وارتجالاتها الصّوتيّة المرنة والمتفرّدة التي يصدح المغنّون بها، القوالي له بصمته الخاصّة في تعدّد الإيقاعات، ويتجاوز الكثيرون من روّاد هذا الفنّ قوانينه وأنغامه وأدواته التّقليديّة، ويصبغوه ببصماتهم الشّخصيّة” (3)
وكتبت الشّعلان مدونة رحليّة بصبغة مختلفة عمّن سبقها إلى زيارة الهند والكتابة عن عوالمها وفتنتها التي لا يمكن سبر أغوارها بيسر، وليس بسهولة بمكان أنْ نفهم التّعارضات النّاتجة في الحياة الإنسانيّة للهنود المترعة بالعجائب والغرائب المرتبطة بالثّقافات والعادات المتوارثة عبر أجيال وأجيال منذ زمن سحيق.
لقد رمتنا الرّحالة د. سناء الشّعلان في “الأشيرون: وهو نهر في جهنّم” بتسليطها الضّوء على قاع المجتمع إلى أعلى هرمه وعاداته وأعرافه التي لا زالت مستحكمة وقائمة على الرّغم من بشاعتها، لاسيما ضدّ الشّرائح المهمّشة والنّساء على وجه الخصوص، وهي عادات بالية ومهترئة لا تؤدّي وظيفة اجتماعيّة، أو وظيفة ثقافيّة، لكنّها تُمارس بحكم العادة المستبدّة والجندرة المفرطة والطّبقيّة، إلى حدّ تجاوز الحدود كلّها التي لا يتخيّلها أيُّ إنسان معاصر.
وكما يقول مارك أوريل “كلّ ما يحصل يحصل بشكل عادل، وهذا ما ستكتشفه لدى مراقبتكَ للأشياء بدقة”. إذن كانت الشّعلان تراقب بدقّة، ونقلت المشهد كاملاً من قاع المجتمع وصولاً إلى قمّة الهرم للنّخب بشكل عادل لكلّ ما يجري، وبشكل محسوس من خلال الصّورة السّرديّة التي تريد أنّ يبصرها القارئ، وبشكل آخر غير محسوس من خلال “التّرقي إلى أعلى مركز للمشاهدة، وذلك لكي نفهم الكمال الذي نحن لسنا سوى جزء تافه منه” (4)
فصوّرت الانسحاق الطّبقيّ والاجتماعيّ والعنصريّ ضدّ النّساء وصولاً إلى الايكلوجيّة البشريّة وأيكلوجيّة المدينة وفوارق التّباعد المكانيّ على أساس تكاليف العيش، وهذا لم يمنع عن كشفها لقوانين التّداعي، وهي قوانين التّضاد والتّشابه والتّلازم في المكان الواحد نفسه.
لقد حيّر المجتمع الهنديّ علماء الاجتماع والانثروبولوجيّ والرّحالة؛ ففي الهند يُولد الإنسان، ويموت دون سكن أو مرحاض لقضاء حاجته، وعلى الرّغم من ذلك يحتفل بالأعياد طيلة العام، ويرقص، ويغني، ويشاهد أفلام السّينما التي تُعدّ من أضخم الإنتاجات السّينمائيّة العالميّة وبلغات مختلفة، ويتعبّد بمئات المعتقدات والأديان والمذاهب والخرافات .
حلقت بنا رحلة “أمّ بطبوطة في جبال الهيمالايا” لنرى ما يمكن أن نراه. والأمر الغريب أنّ الهند تحثّ الخطى نحو التّقدم والعمران دون أن يحدث قطع في عادات شعوبها الغربية والعجيبة إلى حدّ عجز الرّحالة المتقدّمين والمحدثين عن الإحاطة بها، وتدوينها، ولم تشبع فضولنا وتطّلعات الرّحالة.
ولازالت الهند تقبض على الكثير من الأسرار والحقائق المهيبة للمجتمع والحياة و”الثّنائيّة الأخلاقيّة “ethical dualism”، على الرّغم من مشكلة كشمير، وما يجري فيها من عنف وعنف مضاد بسبب النّزاع المستعر منذ عقود، ورفض الهند لمنحها الاستقلال، وهي قضيّة لا تشبهها إلاّ القضيّة الفلسطينيّة، فهما شعبان لا يزالان يكابدان الاحتلال ودمويته وبشاعته.
وقد تطرّقت الشّعلان إلى هذه القضية مبيّنة كفاح الكشميريين، وفضحت الوهم التّدميريّ للدّيمقراطيّة المزعومة، كما فضحت الوهم التّدميريّ للعولمة على الهويّات الثّقافيّة، وتعميقها الهوّة الطّبقيّة بين شرائح المجتمع الهنديّ الذيّ تترسّخ به الطّبقيّة الاجتماعيّة والدّينيّة بفجاجة إلى حدّ السّخط.
من هنا تبرز حاجة الرّحالة إلى كفاية موسوعيّة ودقّة في الالتقاط لكلّ ما حولها قدر الإمكان لإماطة اللّثام عن المعارف والفنون والحالة المجتمعيّة والسّياسيّة السّائدة.
لقد تميّزت الشّعلان في كتابتها لهذه الرّحلة الثّريّة والمختلفة التي كان مقدّر لها أن تكون رحلة علميّة ثقافيّة، فعرّفتنا بأهمّ الجامعات الإسلاميّة في الهند النّاطقة باللّغة العربيّة وكوكبة من أساتذتها وشعرائها وطلبة العلوم، فنقلت الرّحلة إلى آفاق إبداعيّة ووجدانيّة أرحب، وهذا يحسب من نجاحاتها المتعدّدة دون أن تغفل جغرافيّة المكان البعد الرّئيسيّ للرّحلة، بعد أن قامتْ باستنطاق أدقّ تفاصيله العمرانيّة والجغرافيّة والأثريّة.
وهنا لابدّ من الإشارة إلى أنّ نجاح الشّعلان في سرديتها الرّحليّة التي بين أيدينا “أمّ بطبوطة تصلّي في جبال الهيمالايا” يعود إلى تنويعاتها القرائيّة والبصريّة الغائرة في المكان، وتوظيف تقنيّة المونتيف منفردة ومتّحدة من أجل تسريع السّرد، مثل هارمونيّ لا يتوقف، ومن أجل أن تجعل القارئ يشاركها بالتّحليق لاكتشاف عوالم الهند الغريبة والعجيبة بكلّ ما تعنيه الغرائبيّة والعجائبيّة من معنى.
ومن هنا تأتي صعوبة الكتابة عن مدونة الشّعلان الرّحليّة هذه، إضافة إلى أنّها نحت منحىً تجريبيّاً جديداً، مثل سائر أعمالها الإبداعيّة والسّرديّة الأخرى التي خطّت مسار خاصّ لها، مع الأخذ بعين الاعتبار أنّ أدب الرّحلة عند سناء الشّعلان مختلف مثل اختلاف أدب الرّحلة عن سائر السّرديّات المُتعارف عليها؛ لأنّ تمظهراتها الخارجيّة وحدسها النّصيّ المزدوج بين الواقعية والمتخيّل “الوهميّ” الذي يفرضه الأدب هو مختلف عن أدب الرّحلة الذي يقتضي انتزاع أحداث ووقائع فرضها الواقع، ويلزم الرّحالة بها وفاءً لمصداقية الخبر وفق مسار ووقائع وأحداث محدّدة وصلبة إضافة إلى المجتمعات موطن البشر بمختلف أعراقهم ومعتقداتهم بوصفهم أناس من دم ولحم وعظم؛ فمهمّة الرّحالة مثل مهمّة الأنثربولوجيّ؛ فالرّحالة ينفذ إلى واقع مكانيّ، أو جغرافيّ يسكنه مجتمع معين، ويجب عليه أن يحسن استخدام الإجراءات الاستقصائيّة بدقّة في رصد الملاحظة والتّسجيل والتّصوير والتّدوين معزّزة بتاريخانيّة أكثر حياديّة، واستكشاف الأنساق الثّقافيّة المضمرة للمجتمع الهنديّ.
إنّ التّحدي أو الرّهان الذي كسبته سناء الشّعلان في مدونتها الرّحليّة “أمّ بطبوطة تصلّي في جبال الهيمالايا” هو إعلانها بنفسها عن هذا المشروع الذي كان يجب أن يرى النّور في وقت مبكّر عن الوقت الذي قرّرتْ فيه أن يخرج إلى العلن، لتُنتج لنا مدوّنات عديدة تتّسم بالعجيب والغريب من خلال رصدها الدقّيق ومعرفتها العلميّة، وهي صاحبة رسالتين جامعيتين رياديتين في دراسة الأدب الغرائبيّ والعجائبيّ والأسطورة خلال مرحلتي الماجستير والدّكتوراه. (5)
لكن “في أدب الرّحلات يتجاوز ما هو مألوف في الأدب، فإذا كانت العناصر العجائبيّة داخل النّصوص السّرديّة تفزع المتلقي، وتثير انفعاله، أو تذكي فضوله؛ لأنّها رؤية مغايرة للأشياء، وتهزّ كيان القارئ؛ فهي في أدب الرّحلات ذات أبعاد تربويّة ومعرفيّة وعرفانيّة خادمة لسمو الإنسان وجماله الخلقيّ والنّفسيّ” (6)
ختاماً وبأمانة المتلقّي والنّاقد الذي يحاول الحياد، لقد فتنتني رحلة “أمّ بطبوطة تصلّي في جبال الهيمالايا” بشعرية اللّغة ورؤيتها المختلفة في الالتقاط الإنسانيّ والعلاقات التي تنشأ على هامش الرّحلة؛ لأنّ الرّحالة ذات تعبّر، أو تحلّ في مكان وزمان، فلا بدّ أنّ تؤثّر، وتتأثّر بالحياة المحيطة بها بتقبّل للوصول إلى الآخر بغض النّظر عن التّقاطع والاختلاف الدّينيّ والثّقافيّ .
واستطاعت الشّعلان أن تنتزع قدراً كبيراً من المشاهدات غير المألوفة التي يصعب على المرأة الرّحالة الوصول إليها، أو مجرّد التفكير في خوض مغامرتها التي تنطوي على مخاطر وعواقب مكيدة ومختبئة في أماكن الهامش وتخوم المناطق الفقيرة.
وحصول الشّعلان على مرادها وتحقيق أكبر قدر من الموفقيّة لسعيها ذاك كان لأنّ أدلائها كانوا من الهنود المثقّفين من أساتذة وطلاّب الجامعات وباحثين ومفكّرين مسلمين، وهم يتحدّثون اللّغة العربيّة بطلاقة، فسبرتْ وجدان الهنود الذين مرّت بهم، وانتزعتْ قدراً كبيراً من الرّموز والأساطير والخرافات الرّاسخة في وجدان المجتمع الهنديّ ذي الطّقوس التي تصل إلى حدّ اللامعقول، بمثل تعدّد دياناته واثنياته إلى حدّ لا يمكن حصر معطياته؛ لأنّها تحتاج إلى سنوات وهي تبهر وتروع في آن معاً، ومع ذلك نجد هناك عوالم الزّهد والتّصوف وعمل الخير على الرّغم من كلّ شيء .
لقد أثّرت الشّعلان بنا؛ لأنّها كتبت بروح محبّة، وحفظتْ بقلبها أشعار المتصوّفة، وما اختيارها وتضميناتها للنّقول والعطوف من شعراء الهند العظماء والمتفرّدين بتصوّفهم وبتجاربهم الذّاتيّة في عوالم غير مألوفة، إلاّ إضافة جماليّة ومعرفيّة تفتن العقول، وتجد طريقها إلى النّفوس بيسر وسهولة.
“إنْ تكلّمتْ روحُ العاشق
أضرمتْ النّار في هذا العالم
فجعلتْ هذا العالم مجتثّ الأصل
هباء أو كالعدم
تنشقّ عند ذاك السّماء
فلا يبقى كون ولا مكان” (7)
***
” كنتُ في البداية
وسأكون في النّهاية
لا أعرفُ أحداً سوى الواحد
أنا لا أعرف من أنا” (8)
الإحالات :
ملحمة كلكامش: د. طه باقر، دار الحرّيّة للطّباعة والنّشر، بغداد 1978، ص35
2 – أدب الرّحلات: د. حسين محمد فهيم، سلسلة عالم المعرفة، الكويت، 1978، ص43 -44
3 – الطّريق إلى كريشنا: د. سناء الشّعلان، من عنوان فرعيّ: صوت القلب.
4- تعلّم الحياة: لوك فيري، ترجمة سعيد الولي، نسخة إلكترونيّة، ص57
5- السّرد الغرائبيّ والعجائبيّ في الرّواية والقصّة القصيرة في الأردن من 1970-2002 : سناء الشّعلان، رسالة ماجستير، الجامعة الأردنيّة، الأردن؛ والأسطورة في روايات نجيب محفوظ : سناء الشّعلان، أطروحة دكتوراه، الجامعة الأردنيّة، الأردن: الكتابان من إصدارات نادي الجسرة الثّقافيّ الاجتماعيّ، الدّوحة، قطر، 2006
6 – الكتابة والتّلقّي: الرّحلة وفتنة العجيب بين الكتابة والتّلقّي: د. خالد التوزاني، دار السّويديّ للنّشر، الإمارات العربيّة المتّحدة ،2017، ط1، ص172
7 -شعر لمولانا جلال الدّين الرّوميّ، من الطّريق إلى كريشنا: سناء الشّعلان، من عنوان فرعي: أحرم قلبي وحجّت نبضاتي.
8- شعر للشّاعر الهنديّ الصّوفيّ الكبير بوليه شاه، من الطّريق إلى كريشنا: سناء الشّعلان ، من عنوان فرعي: مدينة السّعادة.