“لمحة” عن 17 سنة معقّدة بين سعد وبهاء الحريري
بقلم: فارس خشان
النشرة الدولية –
كان يُفتّرض، عندما قرّرت عائلة الرئيس الشهيد رفيق الحريري أن تنخرط في الحياة السياسية اللبنانية، بعد تفكير جدّي للغاية بالانكفاء الكامل، في ضوء زلزال الرابع عشر من شباط (فبراير)2005، أن يتولّى بهاء، الابن البكر هذه القيادة، ولكنّ “العائلة الصغيرة والكبيرة”، وفي ما اعتُبِر مفاجأة لهؤلاء الذين كانوا يعلّقون على صدورهم، تماشياً مع عادات التوريث التقليدية، أزراراً توالي بهاء، أصدرت بياناً “توّجت” فيه شقيقه الأصغر سعد.
ومنذ حوالي سبع عشرة سنة، لم يحصل أحد على جواب شافٍ عن سبب إبعاد بهاء لمصلحة سعد. كان كلّ طرف يروي ما يُناسبه: هذا ينسبه الى علاقات متوتّرة لبهاء مع أرملة والده السيّدة نازك، وذاك يراه ترجمة لنيّة الوالد الشهيد، إذ إنّه عهد بأمر شركته السعودية العملاقة الى سعد، عندما انخرط في السياسة، بدل أن يسلّمها الى بهاء، وتالياً، كان سيفعل الأمر نفسه لو كان هو الذي يريد أن يختار “وريثاً” سياسياً له، كاسِراً بذلك موقفه المعلن بأنّه لا يريد أن يعمل أولاده، بعد رحيله، في السياسة، وذلك يؤكّد أنّه نتاج موقف اتّخذه، آنذاك، الملك عبد الله بن عبد العزيز، بعد “خطأ”-لم يتم تحديده-ارتكبه بهاء.
إذن، تعدّدت الأسباب والنتيجة واحدة: إبعاد البكر بهاء لمصلحة شقيقه الأصغر سعد، من أجل مواصلة مسيرة رفيق الحريري، الأمر الذي ترك، بطبيعة الحال، ترسّبات نفسية عميقة، من جهة أولى، وكان بمثابة إرضاء للقوى اللبنانية “السيادية” التي قادت مع وليد جنبلاط حملة ضغط كبيرة لمنع خروج عائلة الحريري من الحياة السياسية اللبنانية، من جهة ثانية.
وبين العامين 2005 و 2016 مرّت علاقة الشقيقين بـ”طلعات ونزلات”، فحيناً يقتربان وأحياناً يتباعدان، ولكنّ المفصل الأساس فيها كان عندما اختار سعد أخاه من والده، أيمن لإدارة شؤون شركة “اوجيه” بدل بهاء الذي ردّ في وقت لاحق، على هذه الخطوة، بقرار فضّ كل أنواع الشراكة مع سعد، وتالياً التحليق بعيداً من العائلة.
ولعب خصوم الرئيس سعد الحريري على هذا الاضطراب في العلاقة، إذ كانت مواقعهم الإلكترونية، تنسب، في كلّ فترة، مواقف لبهاء تصب في الخانة التي تناسبهم، فتضع في لسانه شتائم لشقيقه ومديحاً لبشّار الأسد، ودفاعاً عن “حزب الله” وتهجّمات ضد المملكة العربية السعودية. وكان بهاء ينفي، عندما يتخطّى المنسوب إليه شخص شقيقه، كلّ ما يتم نشره.
وبقيت العلاقة قائمة بين الشقيقين، ولو اتّسمت، في كثير من الأحيان، بشيء من البرودة، إلى أن وقع خلاف قوي، ظاهره تجاري-مالي بين بهاء شخصياً وبعض المقرّبين من سعد، ولكنّ باطنه سياسي بامتياز.
ومنذ ذاك الحين لم تعد “الوساطات” التي كان يتولّاها أصدقاء مشتركون للشقيقين، تنفع في “إدارة الخلاف” بينهما، فحصلت القطيعة التي حوّلها بهاء، منذ العام 2017، وعن سابق تصوّر وتصميم، الى منافسة.
حينها، وفي ضوء ما سمّي ب”الإستقالة الاضطرارية” من الحكومة التي قدّمها رئيسها سعد الحريري، خلال استدعائه الى الرياض، راح بهاء يجس النبض حول إمكان أن يكون البديل عن شقيقه، وقد كشفت شخصيات من العائلة الحريرية، كعمّته النائب بهيّة، كما من الحلفاء كرئيس “الحزب التقدّمي الاشتراكي” وليد جنبلاط، عن تواصل جرى، إمّا مباشرة وإمّا عبر موفد معتمد، بينهم وبين بهاء حول هذا الموضوع، فرفضوه، جملة وتفصيلاً، معلنين، ومن دون مواربة، تمسّكهم بسعد.
وقد تبيّن لبهاء الذي جرى تفضيل سعد عليه، مرّة جديدة، في ظل مظلّة لبنانية وعربية وأوروبية وأميركية، أنّه، في حال توافر الظرف مجدّداً، لـ”استرداد ما جرى انتزاعه منه”، فعليه أن يوفّر الحدّ الأدنى من “البنية التحتية” المؤاتية.
وشكّلت “ثورة” 17 تشرين الأوّل(أكتوبر) 2019، فرصة ذهبية لبهاء، فقرّر فتح ثغرة مناسبة له من خلال بعض المجتمع المدني، ووجد في الانهيار المالي والاقتصادي والاجتماعي مدخلاً للعبور عبر “العمل الخيري” الى شرائح واسعة في لبنان، وأسّس لعمل سياسي مناوئ لشقيقه الأصغر، إنطلاقاً من تبنّيه شعار”كلّن يعني كلّن”، مستفيداً من ثلاثة عوامل متلاحقة: خسارة سعد ثروته المالية، فأهم علاقة خارجية له، وهي علاقته مع قيادة المملكة العربية السعودية، فخروجه “النهائي” من رئاسة الحكومة اللبنانية، في ظلّ توتّر كبير أنهك “علاقة غالية” مع الفريق الرئاسي الفرنسي.
وحين انتهت “فترة الحداد” على إعلان سعد الحريري قراره القاضي بتعليق عمله و”تيّار المستقبل” في الحياة السياسية اللبنانية والإنكفاء الكامل عن المشاركة في الانتخابات النيابية، استدعى “أبو رفيق” “منصته الإعلامية” وأعلن في بيان متلفز فيه الكثير من سقطات “العجلة”، “استعادة الشعلة”، مستفيداً من “الهستيريا” التي عمّمها البعض حول مآل الطائفة السنية، من جهة واستفادة “حزب الله” من الفراغ المستقبلي، من جهة أخرى مزامناً إطلالته التي وجّهت سهاماً الى صدر شقيقه سعد، مع تحرّك منسّق لمصلحة المشاركة في الانتخابات، ترشيحاً واقتراعاً، بين دار الفتوى والرئيسين نجيب ميقاتي وفؤاد السنيورة.
بطبيعة الحال، لم يكن قرار الرئيس سعد الحريري مفاجئاً لأحد، ولكن، على الرغم من الأشهر التي قطعها في بلورته قبل إعلانه، بقي لغزاً، لجهة ما إذا كان فعلاً طوعياً ينتمي الى فئة “جلد الذات”، أو فعلاً اضطرارياً ينتمي الى فئة “تقبّل العقوبات المفروضة”.
جهوزية “المؤسسة السنية” وتزامنها مع قرار بهاء الحريري، أعطت فوزاً بالنقاط لحاملي نظرية الانسحاب الاضطراري لسعد الحريري وتيّاره من الحياة السياسية، على الرغم من أنّ “كتلة المستقبل النيابية”، ومن ضمنها سعد الحريري شخصياً، لم تقدّم استقالتها من المجلس النيابي، في خدمة يجوز أن تكون للرئيس نجيب ميقاتي حتى لا يبقى من دون سند نيابي كبير، ومن خلاله للرئيس نبيه برّي، حتى لا يكون ما تبقى من العمر الإفتراضي لـ “مجلسه النيابي” من دون “مشروعية” سنيّة وازنة، وفي خطوة يجوز أيضاً أن تكون “تكتيكية، بحيث يحتفظ الحريري لنفسه بورقة ثمينة يلعبها، لمصحة المجتمعين المدني والدولي، في حال “غامر” الفريق الذي يقوده “حزب الله”، في نسف الانتخابات النيابية والتمديد للمجلس الحالي.
على أيّ حال، إنّ الحسابات الورقية لا تنفع في الحكم لمصلحة قرار دخول بهاء الحريري في صلب الحياة السياسية اللبنانية أو ضدّه، على الرغم من أنّ انطباعات من ساروا مع شقيقه سعد ووراءه تتّسم غالبيتها بالسلبية تجاهه، لأنّ كلمة الفصل هي للناس الذين، ومهما قيل، لا تفتّش أكثريتهم الساحقة عن زعيم يقودها بقدر ما يُفتّشون عن لقمة خبز مغمّسة بالكرامة يعرفون أنّ الزعماء وأولادهم، سواء كانوا في لبنان أو خارجه، لا يفقهون المعنى الحقيقي لفقدانها، وكما قال لي لبناني في العقد الثامن من عمره خسر وديعته المصرفية بعدما فقد راتبه التقاعدي قيمته الشرائية:” الناس بالناس والقطة بالنِّفاس”.
بهذا البعد الشعبي، قد يكون سعد الحريري قد أحسن اختيار توقيت “تعليق” مشاركته في الحياة السياسية التي يعتقد، وفق تأويل كلمته الأخيرة، أنّها، في المعطيات الراهنة، لن تتمكّن من توفير الخبز اليومي للناس، فيما لم يجد شقيقه بهاء توقيتاً أفضل منه، بعد محاولات عدّة، لمباشرة مشاركته السياسية التي جرى حظرها عليه، في فترة الذروة.