الرهائن والفدى في النووي الإيراني

الرهائن والفدى في النووي الإيراني

مصطفى أبو لبدة

النشرة الدولية –

إن لم يطرأ ما هو خارج التقديرات التي توافقت عليها كل الأطراف المشمولة بمفاوضات فيينا لإحياء اتفاق النووي الإيراني 2015، فإن الجولة التاسعة من هذه المفاوضات، المرتقبة بين يوم وآخر، ستكون على الأرجح الجولة النهائية.

نهائية؛ لأن الجولة التي سبقتها استغرقت ثلاثة أسابيع بين المقايضة والتنازلات المكتومة، وتزامنت مع استعراضات ترهيب في الشرق الأوسط، شكلّت في مجملها مشهداً استثنائياً في تواريخ ما يُعرف بدبلوماسية الرهائن والفدية.

الرهائن يمكن أن يكونوا أفراداً أو مجاميع أو دولاً، والفدية يمكن أن تكون تنازلات تتيح تمرير صفقة تترك الأقواس مفتوحة لمزيد من عدم الاستقرار.

ما حصل في الجولة الثامنة، ولم يتحدث به علناً أي من وفود الدول الخمس التي تتفاوض مع إيران، هو أن الولايات المتحدة الأمريكية أقرّت بالإفراج عن الأصول الإيرانية المجمّدة في الخارج، بحيث تمر هذه الأموال عبر قناة صينية بدلاً من القناة الأوروبية

كشف عن هذه المعلومة سكرتير لجنة الأمن القومي والسياسة الخارجية في البرلمان الإيراني، علي زادة، في سياق استعراض مشفوع بالقول إنه كان المفروض أن تبقى هذه المعلومة سرية.

وحتى نائب المبعوث الأمريكي الخاص بشأن ايران، ريتشارد نيفيو، الذي استقال بسبب مثل هذا الذي يراه تفريطاً من إدارته وخضوعاً غير مبرر للمطالب الإيرانية، لم يشأ أن يعلن هذه المعلومة، والتزم بالتكتم عليها.

أهمية هذه الخطوة التي تحققت في الجولة الثامنة من المفاوضات، هي أن إيران كانت تشعر بالقلق من أن الشركات الغربية ستظل تحجم عن الاستثمار في إيران، ما لم تحصل على ضمانات حقيقية من واشنطن.. وقد حصلت عليها طهران ومعها ضمانات بشأن حجم الإنتاج النفطي بعد رفع العقوبات.

في لعبة التنازلات المتبادلة التي شهدتها الجولة الأخيرة من مفاوضات فيينا، وبررت التوقع بأن تكون الجولة القادمة نهائية، أعلنت هيئة الطاقة الذرية تعهداً علنياً بأنها لن تسعى لتخصيب اليورانيوم بنسبة تزيد عن 60%، وهو الوعد الذي كان يريده الروس لتعزيز مبادرتهم بأن تحصل إيران على 8-10 مليارات دولار من أموال النفط المجمدة.

خطوة تبين لاحقاً أن الوفد الأمريكي وافق عليها وهو يعرف أن ذلك سينقذ الاقتصاد الإيراني المتعثر.

أيضا وبشكل تطوعي غير مُدرَج ٍعلى قائمة المطالب الإيرانية في المفاوضات، قدمت الولايات المتحدة، خلال الجولة الأخيرة، إشارات كافية بموافقة إدارة الرئيس جو بايدن على العودة لمنظمة يونيدو التابعة للأمم المتحدة، وهي المنظمة المعروفة بأنها شريك أساسي لإيران في البرنامج النووي من خلال نقل التكنولوجيا ذات الاستخدام المزدوج.

وكانت أمريكا قد انسحبت من اليونيدو قبل عشرين عاما بدعوى عدم الجدوى من هذه العضوية.. عودتها المنتظرة قريبا لم تحظ بتبرير كافٍ، لكن إيران اعتبرتها دفعة على حساب المقايضة.

حجم التنازلات التي قدمها الوفد الأمريكي كان مريباً، وزاد في حيرة الذين يرصدون ذلك مفارقة أنها جاءت في مقابل تصعيد إيراني مشهود.

وكانت طهران قد بدأت خلال الجولة السابعة لمفاوضات فيينا بتخصيب اليورانيوم العالي الجودة، وفي ذلك كانت تستثمر الضجة التحذيرية التي شاركت فيها مختلف الأطراف ذات الصلة، بما فيها اسرائيل، التي تقول إن إيران باتت على مسافة قصيرة من نقطة اللاعودة التكنولوجية.. والمقصود بذلك الوقت الذي سيستغرقها لإنتاج اليورانيوم المستخدم في صنع قنبلة نووية، حيث إنه مع التخصيب العالي الجودة تتقلص مدة الاختراق الذري لتصبح الآن بضعة أشهر، إن لم تكن شهراً واحداً.

في ذروة لعبة الضغط المتبادل بين الولايات المتحدة الأمريكية وإيران داخل الجولة الثامنة من مفاوضات فيينا، التي كان معروفاً أنها ستكون الحاسمة، شهدت منطقة الشرق الأوسط تزامناً سريع التتابع في العمليات الإرهابية التي استهدفت مواقع للقوات الأمريكية أو لحلفاء واشنطن.

ورغم أن هذه العمليات الإرهابية، التي اجتاحت الشرق الأوسط فجأة، توزعت ما بين العراق وسوريا ودول الخليج العربية، وتفاوتت بيانات المسؤولية عنها ما بين تنظيم داعش وميليشيات الحشد العراقي والحوثيين في اليمن، فإن سويّتها الفنية وتوقيتها المتزامن، أثارا شكوكاً لم تبق مكتومة.. شكوكاً بوجود صلة وظيفية بينها وبين مفاوضات فيينا التي دخلت ساعتها الـ23 في توقيت الضغطة الأخيرة الحاسمة.

في العراق، شن تنظيم داعش هجمات دامية على مقر الجيش في منطقة العظيم بمحافظة ديالى وقتل جميع الجنود في المقر، وأعقبه بهجوم على سجن الصناعة بمدينة الحسكة شمال شرقي سوريا، وُصف بأنه إحدى أكثر عمليات داعش تعقيداً في السنوات الثلاث الماضية.

قيل في هذه العمليات النوعية إنها ربما تكون إشارة لعودة داعش إلى ما كان عليه 2014، لكن، كان هناك مَن يرى أن الموضوع له علاقة بمحادثات فيينا وما يجري داخلها من ضغوط واستعراض قوة، أكثر مما يتصل بالمتحوّر الجديد المحتمل لتنظيم الدولة.

وفي وقت لاحق، أعلنت قوات سوريا الديمقراطية، المدعومة من واشنطن، والمناطُ بها حماية سجن الحسكة، أن ما جرى كان ”مؤامرة“ أوسع من قدرات داعش، فقد تبيّن، كما قالت ”قسد“، أن داعش تلقى دعماً من عناصر وقوى متنفّذة كانت منتشرة قريباً من السجن..

هذا الأمر ترك مساحة للتكهن عما إذا كانت تلك القوى المُيسِّرة والداعمة لداعش هي من ترتيبات الحرس الثوري الايراني المتوغلة في سوريا أو ميليشيات الحشد العراقية التي توالي طهران، وأن تحريكها كان برغبة إيرانية في إيصال رسالة إضافية لواشنطن مفادها أن القوات والمصالح الأمريكية تبقى رهينة إيران ووكلائها في المنطقة.

وكان لافتاً في تعميم هذا التحليل، أن العمليات النوعية لداعش في سوريا والعراق تزامنت مع استهداف دولة الإمارات العربية المتحدة بمسيّرات مفخخة أعلن الحوثيون مسؤوليتهم عنها، في بيانات لم تقلل من القناعة بأنها تدابير إيرانية.

واحدة من أوراق القوة التي تتحزّم بها إيران في مفاوضات النووي بفيينا، هي وجودها المسلح في خمس بلدان عربية، بينها غزة، وأن لديها وكلاء وميليشيات من الطائفتين الشيعية والسنّية.

يُضاف إلى هذه الورقة حرفة إيرانية متراكمة في دبلوماسية ”الرهائن والفدية والمقايضة“، استخدمتها ثورة الخميني في بداياتها بحصار السفارة الأمريكية في طهران، نوفمبر 79، واحتجاز 52 دبلوماسياً ومواطناً أمريكياً كرهائن.

وكررتها في أكثر من مناسبة، ومع أكثر من جهة دولية وعربية، وفي واحدة منها مع قطر عام 2016 حصلت على حوالي بليون دولار تقاسم جزءاً منها، كما هو معروف، قائد فيلق القدس اللواء قاسم سليماني وتشكيلات في سوريا بعضها تابع لتنظيم القاعدة.

دبلوماسية الاختطاف والمقايضة كانت جزءاً من مفاوضات النووي الإيراني بفيينا، واتكأ عليها وزير الخارجية الأمريكي أنطوني بلينكن ليبرر التنازلات التي قدمتها واشنطن لطهران في الجولة الأخيرة من المفاوضات.

سئل بلينكن، يوم 24 يناير، عن مبرر الارتباك والضعف الذي حكم موقف إدارة بايدن وهي تعيد التفاوض على ما انسحب منه ترامب، فكان جوابه أن مفاوضات فيينا هي في حقيقتها ”محاولة لتجميع شظايا وحطام ما أحدثه القرار الكارثي لترامب“، وزاد على ذلك بالقول إن ”عملية تجميع المكسور من خلال التفاوض، طبيعي أن تتضمن أشياء لا تعجب البعض، ويفضل البعض الآخر تجنّبها لو كنّا نعيش في عالم مثالي“.

تبرير بلينكن لكل التنازلات التي حصلت عليها طهران من واشنطن، لم يُقنع او يُرضِ الكثيرين.. هناك وفي الشرق الأوسط، فقد أصبح مرجحا أن تنتهي الجولة التاسعة الختامية من المفاوضات، باتفاق جديد مؤقت للنووي الإيراني سبق أن اقترحته روسيا وأيده الرئيس الفرنسي في محادثته الهاتفية الأخيرة مع الرئيس الإيراني قبل أربعة أيام.

مثل هذا الاتفاق المؤقت، قطعا لن يقلل من هواجس وشكوك الدول العربية، ولديها في هذه الهواجس الكثير مما تقوله.

في الخامس والعشرين من نوفمبر 2021، كان لمساعد وزير الخارجية الإيراني رئيس وفد التفاوض في فيينا علي باقري كني، جولة خليجية أعلن منها عن فتح صفحة جديدة في العلاقات وتعزيز أساسات حسن الجوار والاحترام المتبادل في إطار المصالح المشتركة.

كان كلاما طيباً، لكنه لم يصمد.. لم ينقض شهران على تلك الجولة حتى استأنف الحوثيون توجيه مسيّرات وصواريخ الإرهاب إلى بعض الدول الخليجية التي كان قد وعدها علي كنّي بصفحة جديدة أساسها حُسن الجوار والمصالح المشتركة.

 

إرم نيوز

Back to top button