عندما تخالف الكوارث المنطق
بقلم: أحمد الصراف

النشرة الدولية –

بالرغم من أن المنطق من اختراع الإنسان، فإنه يميل أحياناً إلى تجاهله، فتقع الكوارث.

***

تعتبر معركة The Battle of the Bulge (معركة الثغرة أو هجوم الأردين)، الأكثر دموية وخسائر في التاريخ الأميركي، حيث قتل فيها 19 ألف جندي اميركي، إضافة إلى سبعين ألفاً بين جريح ومفقود، وكل ذلك خلال شهر واحد من الحرب العالمية الثانية، على يد القوات الألمانية!

لم يكن لدى الألمان – في أشهر الحرب الأخيرة – ما يكفي من جنود للفوز بهجوم مضاد (استمرت المعركة من 16 ديسمبر 1944 حتى 25 يناير 1945)، وما تبقى لديهم كانوا في الغالب من الأطفال دون سن 18 عاماً وبلا خبرة قتالية. كما لم يكن لديهم ما يكفي من وقود وطعام. كما شكّلت التضاريس في غابة أردين البلجيكية عائقاً أمامهم، هذا غير الطقس القارس البرودة، وكان الحلفاء على يقين تام بأن لا قائد ألمانياً يملك ذرة عقل سيشن هجوماً مضاداً، لذلك اختاروا ترك الخطوط ضعيفة إلى حد ما وغير مزودة بالإمدادات. وفجأة هجم الألمان على أي حال، وحدثت المجزرة.

ما أغفله الجنرالات الأميركيون هو مدى اضطراب هتلر، حيث كان يعيش في عالمه الخاص، بعيداً عن الواقع والعقل.

***

بعدها بجيل، وفي حرب فيتنام، اعتبر وزير الدفاع حينها «روبرت ماكنمارا» أن العالم مشكلة حسابية كبيرة، وبالتالي وضع لكل شيء «كماً»، وبنى حياته المهنية على فكرة أنه يمكن حل أي مشكلة إذا أطعت الحقيقة الباردة للأرقام والإحصاءات والمنطق. واعتبر أحد مقاييس النجاح في حرب فيتنام هو إحصاء الجثث، وكم من الفيتكونغ قتلتهم القوات الأميركية؟ فقتل عدد كافٍ منهم سيحطم روحهم المعنوية.

وكان الجنرال «ويليام ويستمورلاند»، قائد القوات الأميركية، يقول: سنستمر في نزيفهم حتى تستيقظ هانوي، وسيتعين عليهم إعادة تقييم موقفهم، وهكذا تحولت الحرب إلى معادلة حسابية، فإذا فاق عدد قتلى العدو عدد القتلى الأميركيين، سينتصر هؤلاء في النهاية!

لكن جثث الفيتكونغ تزايدت وتراكمت، ولم تتوقف الحرب، والسبب فشل «المعادلة»، لأن قادة فيتنام لم يكونوا «عقلانيين»، ولم يحسبوا التكاليف والفوائد والخسائر الهائلة في الأرواح، ويتخذوا قراراتهم على ضوئها!

وهنا تبين للأميركيين أنهم أغفلوا «مشاعر الشعب الفيتنامي»، وهو أمر لا يمكن التقاطه على لوحة الرسوم البيانية وأرقام قتلى الطرفين. فقد بينوا، قادة وأفراداً عاديين، استعدادهم للقتال لسنوات طوال، كما كتب أحد مراسلي النيويورك تايمز، من أجل تحقيق النصر.

وفي ذلك قال «هو تشي مينه» مخاطباً الأميركيين: ستقتلون عشرة منا، وسنقتل واحداً منكم، لكنكم أنتم من سيتعب أولاً!

وفي ما يشبه الفخر بإنجازات القوات الأميركية، قال الجنرال ويستمورلاند ذات مرة للسيناتور هولينغز «إننا نقتلهم بمعدل 10 إلى واحد». أجاب هولينغز «الشعب الأميركي لا يهتم بالعشرة، بل يهتم بالواحد»!

ولكن كل ذلك كان صعب التصديق في داخل العقل الإحصائي لشخص مثل ماكنمارا. كان الأمر أشبه بتحدي قوانين الفيزياء، أو خطأ مطبعي في معادلة رياضية. ولكن هذه هي الطريقة التي يعمل بها العالم، فبعض الأشياء لا تحسب.

من ذلك نرى أن مكمن الخطر، كما نراه غالباً في الاستثمار، عندما يصبح الناس شبيهين بمكنمارا، مهووسين بالبيانات، وواثقين جداً من نماذجهم، وأنهم لم يتركوا مجالاً للخطأ أو المفاجأة. ولكن الاحتمال بأن تكون الأشياء مجنونة وغبية وغير قابلة للتفسير وارد، وتبقى على هذا النحو لفترة طويلة. وعلينا أن نتساءل دائماً «لماذا يحدث هذا؟»، وألا نتوقع أن تكون هناك إجابة منطقية. فأولئك الذين يزدهرون على المدى الطويل هم أولئك الذين يفهمون أن العالم الحقيقي ما هو إلا سلسلة لا تنتهي من العبث والارتباك والعلاقات الفوضوية والأشخاص غير الكاملين.

فـ«جون ناش»، أحد أذكى علماء الرياضيات، كان أيضاً مصاباً بالفصام، وقضى معظم حياته مقتنعاً بأن كائنات فضائية ترسل له رسائل مشفرة. وعند سؤاله عن ذلك رد «ناش»: «الأفكار التي كانت لديّ عن كائنات خارقة للطبيعة جاءت لي بالطريقة نفسها التي فعلت بها أفكاري الرياضية. لذلك أخذتها على محمل الجد». فالخطوة الأولى لقبول أن بعض الأشياء لا تحسب هو إدراك أن سبب ابتكارنا والتقدم هو أننا محظوظون بوجود أشخاص في هذا العالم تعمل عقولهم بشكل مختلف عن عقولنا، مثل ناش وإيلون ماسك وستيف جوبز، بشخصياتهم المتساوية في الذكاء والعبثية، وأننا لن نصل إلى أي مكان أبداً إذا نظر الجميع إلى العالم على أنه مجموعة من القواعد العقلانية التي يجب اتباعها.

***

كانت الحرب العبثية العراقية – الإيرانية، التي استمرت ثماني سنوات مرعبة، في بالك طوال كتابة هذا المقال!

 

 

زر الذهاب إلى الأعلى