الأزمة الروسية الأوكرانية: تركيا بين حليفين
بقلم: د. سنية الحسيني

النشرة الدولية –

تتأجج نيران الحرب أكثر، وتتصاعد الأزمة الروسية الأوكرانية، في ظل تزمت الموقف الأوكراني، وإصراره على المضي قدماً للانتساب للاتحاد الأوروبي وحلف الناتو، والضرب بعرض الحائط بمطالب روسيا الأمنية التي شُنت الحرب تحت ذريعتها. وتتصاعد العقوبات الغربية الموجعة لروسيا، ومحاولات عزلها اقتصادياً وسياسياً، وتتراكم المساعدات العسكرية والمالية الغربية لأوكرانيا، لمساعدتها على الصمود أطول مدة ممكنة في وجه العدوان الروسي، وتخفت الآمال بالتهدئة، بعد أول جولة محادثات روسية أوكرانية، جرت قبل يومين، وخرجت خاوية الوفاض. تخرج تركيا وسط هذا الضباب داعية للتهدئة، ومنتقدة صراحة دور حلف الناتو في هذه الأزمة، معتبرةً أن جميع مواقفه لا تخرج عن حدود القول دون أن تصل حد الفعل، عارضة أن تلعب دور الوسيط لوأد نار الفتنة والحرب، فما هي دوافع تركيا للعب هذا الدور؟ وهل لديها رغبة حقيقية في إنهاء هذه الحرب؟

يبدو أن تركيا لم تكن ترغب في وصول الأزمة الروسية الأوكرانية حد الحرب، كما أنها تمتلك رغبة حقيقية في عدم استمرارها، وقد تكون تركيا أفضل الخيارات إذا جاء الحديث عن وساطة خير بين طرفي النزاع. هناك ثلاثة أسباب تؤكد مصلحة تركيا في وقف هذه الحرب، يرتبط السببان الأول والثاني معاً ويترتب أحدهما على الآخر، بينما لا يقل الثالث أهمية عن السببين الأولين. ويدور السبب الأول حول ارتباطات تركيا الاقتصادية بالبلدين المتصارعين، ولعل لغة الأرقام تجيب مباشرة على التساؤلات في علم الاقتصاد. بلغ حجم التبادل التجاري بين روسيا وتركيا ٣٤.٧ مليار دولار عام ٢٠٢١، حيث تعتبر روسيا واحدة من أهم شركاء تركيا التجاريين، بينما وصل حجم التبادل التجاري بين تركيا وأوكرانيا ٧.٤ مليار دولار في نفس العام، بزيادة قدرت بـ ٥٠٪ عن الأعوام السابقة. وتأتي ٧٨٪ من واردات تركيا من الحبوب من روسيا وأوكرانيا معاً، ٦٤.٤٪ منها يأتي من روسيا، بينما ١٣.٤٪ مصدرها أوكرانيا، ونصف احتياجات تركيا من الطاقة تأتي من روسيا، اذ تعد تركيا ثاني أكبر مستورد في العالم للغاز الطبيعي الروسي بعد ألمانيا. كما تعتمد تركيا على البلدين الروسي والأوكراني في مجال السياحة، التي تشكل ٥٪ من دخلها.

تنامت العلاقات الاقتصادية التركية الروسية بشكل كبير خلال السنوات الثماني الماضية. ويعتبر تدشين خط أنابيب الغاز «ترك ستريم» عام ٢٠١٩، أحد أهم المؤشرات المهمة على التعاون الاقتصادي بين البلدين، اذ إنه لا ينقل فقط احتياجات تركيا من الغاز، بل أيضاً ينقل الغاز الروسي إلى جنوب وجنوب شرقي أوروبا. ويجعل هذا المشروع تركيا مركزاً لنقل الغاز إلى أوروبا، تماماً كما يجعل خط انابيب «نورد ستريم٢» ألمانيا مركزاً لنقل الغاز الروسي الى غرب أوروبا. وتمثل شركات المقاولات التركية العاملة في روسيا حوالي ٢٠٪ من مجمل هذا النوع من الشركات.

على الجانب الآخر، تعتبر أوكرانيا مهمة اقتصادياً أيضاً لتركيا، وإن لم يكن ذلك على نفس المستوى الروسي، فحجم التجارة التركية مع روسيا يفوق بستة أضعاف تلك التي مع أوكرانيا، ناهيك عن مشاريعها الاقتصادية الاستراتيجية الشديدة الحساسية معها. وتشير زيارة الرئيس التركي الأخيرة رجب طيب أردوغان الى أوكرانيا الشهر الماضي إلى الأهمية الاقتصادية لعلاقة تركيا بأوكرانيا، خصوصاً بعد توقيع اتفاقية التجارة الحرة بين البلدين، والتي ستدخل حيز النفاذ مطلع العام القادم، والتي من شأنها أن تضاعف حجم التبادل التجاري بينهما. ورغم أن توقيع تلك الاتفاقية يقع في مصلحة تركيا، التي تتميز صناعتها، خصوصاً الكهربائية منها، بجودة أعلى، وأسعار معقولة، مقارنة بالمنتجات الأوكرانية، الا أن ذلك يرتبط بتوقيع الاتفاقية الإطارية للتعاون في مجال الدفاع ومجال التقنيات العالية والطيران والصناعات الفضائية. وتسعى تركيا لأن تصبح من بين أهم مصدري الأسلحة في العالم، وتتبنى استراتيجية تقوم على تطوير صناعاتها الدفاعية، وعكفت خلال العشرين عاماً الماضية على بناء ترسانة كبيرة من الطائرات المسيرة، حيث تتصدر أوكرانيا قائمة الدول التي تستورد الطائرات الموجهة عن بعد من تركيا. باعت تركيا لأوكرانيا منذ العام ٢٠١٩ عشرات الطائرات الى جانب محطات التحكم والصواريخ والطرادات ذات القدرة العالية على المناورة.

وتعاني تركيا من العقوبات الأميركية التي تعطل مشاريعها الصناعية، خصوصاً في مجال الدفاع، خصوصاً بعد أن توطدت علاقاتها الاستراتيجية مع روسيا. وتعتبر تركيا أن أوكرانيا إحدى وسائل تحقيق هذه السياسة وحمايتها من الضغوط والعقوبات الغربية، وتعتبر اتفاقيتها مع أوكرانيا في ذلك المجال مخرجاً لتحقيق أهدافها. وكان من بين الاتفاقيات التي وقعتها مؤخراً مع أوكرانيا الشهر الماضي مذكرة لإنشاء مركز مشترك في إنتاج وتشغيل وتطوير الجيل الحديث من الطائرات التركية بدون طيار «الدرونز»، والتي تمهد الطريق لإنتاج تركي أوكراني مشترك. يأتي ذلك بالإضافة إلى اعتبار تركيا اليوم أحد أبرز المستثمرين الاقتصاديين في أوكرانيا.

تبرز أهمية الدور الاقتصادي لروسيا وأوكرانيا بالنسبة لتركيا بشكل أكبر عندما تقترن بالسبب الثاني، والذي يتعلق بالوضع الاقتصادي التركي الحالي الذي يعيش اليوم أسوأ حالاته، اذ يتسارع التضخم بشكل ملحوظ ويتزايد العجز في الميزانية العامة. وتشهد تركيا، لأول مرة منذ عقود، احتجاجات شعبية ضد ارتفاع أسعار السلع الرئيسية، في خضم انخفاض في شعبية اردوغان، الذي سيخوض الانتخابات العام القادم. وتعتبر خسارة الليرة التركية لاكثر من ٥٪ من قيمتها بعد أيام بسيطة من الحرب، مؤشراً مهماً على الضرر الذي سيترتب على استمرار الحرب الروسية الأوكرانية، في ظل توقعات بانخفاض الواردات من المواد الأساسية، وارتفاع الأسعار التي بدأت في الارتفاع بالفعل. إن توقيف العمل بخطوط نقل الغاز من روسيا، يعني انقطاع المصدر الرئيس للغاز بالنسبة لتركيا، الأمر الذي يفسر إعلانها عن عدم مشاركتها في فرض عقوبات على روسيا، في ظل تصاعدها من طرف الدول الغربية، مع العلم أن إمدادات النفط من روسيا إلى أوروبا عبر أوكرانيا لم تتوقف حتى الآن.

يتعلق السبب الرئيس الثالث الخاص برغبة تركيا في حل الازمة بين الفرقاء المتحاربين، بالاعتبارات الاستراتيجية لعلاقتها مع البلدين. تمتلك تركيا علاقة استراتيجية شديدة الحساسية مع روسيا، بدأت تتبلور بشكل خاص بعد محاولة الانقلاب الأخيرة ضد أردوغان عام ٢٠١٦. وجاء تحول ثقة تركيا عن الغرب باتجاه روسيا بسبب موقف الولايات المتحدة وحلفائها الغربيين في عدد من المواقف، لعل أهمها تدخل أميركا لدعم الجماعات الكردية المسلحة في شمال سورية، والذين تعتبرهم تركيا جماعات إرهابية، وعدم موافقة حلف الناتو على تزويد تركيا بالطائرات القتالية «اف ٣٥» أو المشاركة في عمليات تطويرها، كأعضاء الحلف الآخرين. كذلك تعتقد تركيا بأن الولايات المتحدة تقف وراء انقلاب عام ٢٠١٦، خصوصاً لأنها تحمي المعارض «فتح الله غولن» وترفض تسليمه لتركيا، ناهيك عن رفض الاتحاد الأوروبي حتى اليوم الموافقة على انضمام تركيا اليه.

وعلى الرغم من علاقة التنافس الاستراتيجي التاريخية بين تركيا وروسيا، تعتقد تركيا أن علاقتها مع روسيا يمكن أن تحقق لها التوازن مع الغرب. إن ذلك يفسر سياسات روسيا وتركيا القائمة على التنافس الظاهر في العديد من المناطق في سورية وليبيا والقوقاز، الا أنه يبقى تنافساً مضبوطاً، ومحكوماً بالتفاهم بين البلدين. كذلك تشكل أوكرانيا أهمية استراتيجية لتركيا في ظل الصراع التركي الروسي في البحر الأسود، والمنطقة الشديدة الأهمية للبلدين الروسي والتركي، اذ تعمل أوكرانيا، ذات العلاقة المتوترة مع روسيا، على خلق نوع من التوازن مع روسيا في هذه المنطقة.

في ظل الاعتبارات السابقة، تدخلت تركيا في هذه الحرب وأعلنت لأول مرة عن وجود حالة حرب بين روسيا وأوكرانيا، والذي جاء بعد مطالبة أوكرانية، والتي بدت راضية عن موقف أنقرة، لما يترتب على ذلك تفعيل العمل بمعاهدة مونترو وقت الحرب. ووافقت روسيا على إعلان تركيا بتفعيل العمل بتلك المعاهدة، وأكدت سحب طلبها الخاص بالسماح لسفن غير مسجلة ضمن أسطول البحر الأسود بعبور المضائق التركية باتجاه البحر الأسود. وعلى الرغم من أن المتضرر الأول ظاهرياً في تفعيل عمل هذه المعاهدة هو الطرف الروسي، على أساس عدم مقارنة القوة البحرية الأوركرانية بتلك الروسية في البحر الأسود.

تسعى تركيا لتحقيق السلام ووقف الحرب المشتعلة بين حليفيها، وهذا يؤكد عدم نيتها الإضرار بأي منهما خصوصاً الطرف الروسي، حتى وإن فعّلت العمل بالمادة ١٩ من معاهدة مونترو. كما أن استياء روسيا من منح تركيا الطائرات المسيرة لاوكرانيا لاستخدامها ضدها محدود، لأن هذه الطائرات لن تكون مفيدة في هذا النوع من الحروب، فهي تتناسب أكثر في المعارك المحدودة، لكنها لا تحسم هذا النوع من المعارك.

Back to top button