“سلم أهليّ”… قلتم!
بقلم: فارس خشان
النشرة الدولية –
فهم القيادات اللبنانية للسلم الأهلي سخيف. هم يحصرون هذا المفهوم النبيل بغياب الاشتباكات المسلّحة بين القوى السياسية المختلفة. في واقع الحال، هذا يُسمّى “هدنة”، سببها، في المعطى اللبناني الراهن، تفوّق ظاهر لمجموعة مهيمنة على الجماعات اللبنانية الأخرى.
السلم الأهلي، في القاموس السياسي، لا يصح إلّا عندما يكون تعبيراً عن وفاق وطني عميق، يشمل فهماً موحّداً للدولة وموقعها ووظيفتها وسلطاتها ومؤسساتها ومرافقها، ويعتمد تطبيقه على معايير شرعية ومتساوية، ويستند لحلّ ما يمكن أن يستجد من نزاعات، إلى آليات دستورية واضحة ومسلّم بها، الأمر الذي يوفّر الأمان والرفاهية في آن.
وعليه، فإنّ الشروط الضرورية لإرساء السلم الأهلي غير متوافرة في لبنان على الإطلاق. العكس هو الصحيح.
لا يحتاج اللبنانيون وجميع المعنيين بالشأن اللبناني الى أدلة على ذلك، فالحقائق ناطقة: نظرة سريعة الى “حزب الله” وطبيعة علاقات غالبية اللبنانيين به كافية.
إنّ الأسباب الموجبة لما ورد في الرد اللبناني على الورقة “الخليجية – العربية – الدولية” الهادفة الى إنقاذ لبنان من “أزمته مع نفسه”، تبيّن أن المسؤولين اللبنانيين يخشون من الموافقة على مضامينها من “حزب الله”.
والخلفية التي “أرغمت” زعيم “تيار المستقبل” الرئيس سعد الحريري على “تعليق” مشاركته، فردياً وحزبياً، في الحياة السياسية، تجد ترجمتها، وعدم رغبته وقدرته في آن، على خوض مواجهة لا بدّ منها مع “حزب الله”، على اعتبار أنّ مواجهة كهذه، وفق التجربة الطويلة المرهقة، لا يُبقيها “حزب الله” في الإطار السياسي.
والحقيقة التي تدفع بعدد من القيادات اللبنانية الى الوقوف في وجه المطالبة بتنفيذ القرار الدولي الرقم 1559 القاضي، في جزء منه، بنزع سلاح “حزب الله”، تكمن في الخوف من انقضاض هذا الحزب عليهم، بما يملكه من قدرة عنفية واستعداد ترهيبي.
وعجز لبنان الرسمي عن تشريف وعوده المتواصلة بالنأي بالنفس عن حروب المنطقة وصراع محاورها، يعود الى الهيمنة التي يفرضها “حزب الله”، بترسانته الأمنية والعسكرية، وليس أدلّ الى ذلك سوى سكوت جميع القوى السياسية اللبنانية التي عادت، بنسب متفاوتة، وتشاركت في السلطة، عن إقدام هذا الحزب، ومن دون تكليف نفسه استشارة أحد، على تمزيق “إعلان بعبدا” الذي يحمل تواقيعها.
وما من سبب يحول دون انتفاضة اللبنانيين على المسار التهديمي الذي سلكته علاقات لبنان مع أهم الدول القادرة على مساعدته في الخروج من كارثته، كالمملكة العربية السعودية، سوى رعبهم من ردّة فعل “حزب الله” الذي يقود الجميع، رغماً عنهم، الى أن يكونوا “أكياس رمل” لمصلحة “محور الممانعة” الذي تقوده الجمهورية الإسلامية في إيران.
ولا يمكن، في الذكرى السنوية لاغتيال المفكّر والمناضل لقمان سليم، فهم الأسباب التي تُبقي ملف التحقيقات في قضيته أبيض الصفحات، في مقابل التباهي بتفكيك شبكات مشتبه بتجسّسها لمصلحة إسرائيل، سوى خضوع الأجهزة الأمنية لـ”حزب الله”، بعدما “ربّتها” الاغتيالات المتلاحقة للنقيب وسام عيد (قوى الأمن الداخلي) واللواء فرانسوا الحاج (الجيش اللبناني) واللواء وسام الحسن (قوى الأمن الداخلي)، ناهيك قبلها كلّها عن محاولة اغتيال العميد سمير شحادة (قوى الأمن الداخلي).
ويستحيل فهم الجمود الحاصل في تحقيقات انفجار مرفأ بيروت الكارثي، من دون التوقف عند الأسباب التي منعت توقيف المسؤول الأمني في “حزب الله” سليم عيّاش، المحكوم عليه في جريمة اغتيال الرئيس رفيق الحريري، والمتهم باغتيال المناضل السياسي جورج حاوي ومحاولتي اغتيال الوزيرين مروان حماده والياس المر.
إنّ هذه الوقائع التي يتم إيرادها على سبيل المثال لا الحصر، تبيّن أنّ السلم الأهلي في لبنان هو سراب ووهم وتخيّل وفرضية، مثله مثل وحدة يوغوسلافيا، في القرن الماضي، إذ إنّه لا يُخفي حقائق وطنية شاذة فحسب، بل يُغذّيها ويعمّقها أيضاً.
إنّ السلم الأهلي المغشوش الذي باسمه يتم إرجاء كلّ الاستحقاقات الإنقاذية أخطر بكثير من إمكان المسّ به، من أجل إصلاح حال البلاد والعباد، لأنّ لإهمال وضعية “حزب الله” الحالية تداعيات “لا تُبقي ولا تَذَر”.
إنّ القيادات الحكيمة ترفض، بالمطلق، أن تُغطّي “الهدنة” الحالية باستخدام مصطلحات غير دقيقة كالسلم الأهلي، بل تعمد، من دون هوادة، لنقل الحال من وضعية الهدنة الى وضعية السلام، لأنّ “الهدنة”، كما بيّنت دروس التاريخ، متى جرى تحويلها الى هيمنة وطغيان وظلم وإفقار، تنقلب حرباً ضروساً، في ساعة لا يدركها أحد.
إلى مثل هذه النوعية من القيادات يفتقر لبنان وسلمه الأهلي المنشود.