سيناريوهات الأزمة الأوكرانية
بقلم: وليد فارس

تعلو أصوات في واشنطن ولندن للوقوف عسكرياً مع الجمهورية السوفياتية السابقة في حال أمرت القيادة الروسية الاجتياح

النشرة الدولية –

وإذ تشد الأنظار إلى الحدود الأوكرانية- الروسية، وتكثف موسكو انتشار جيوشها على حدودها الغربية مع الجمهورية الأوكرانية، وتطلب كييف المساعدة من الغرب، وتعلو أصوات في واشنطن ولندن للوقوف عسكرياً مع الجمهورية السوفياتية السابقة بحال أمرت القيادة الروسية الاجتياح، ويحبس العالم أنفاسه، يطرح المراقبون أسئلة دراماتيكية كثيرة. لماذ يريد الكرملين الدخول إلى أوكرانيا ولماذا الآن؟ ماذا تريد أوكرانيا؟ هل الغرب موحّد؟ هل أميركا موحدة؟ ما هي السيناريوهات المطروحة والممكنة؟

ماذا تريد موسكو؟

منذ انهيار الاتحاد السوفياتي وتفككه، والإرث الثقيل لا يزال يشكل وقوداً لمواجهات بين روسيا الاتحادية والجمهوريات التي انفصلت عن موسكو. كما حصل مع جورجيا ويحصل الآن مع أوكرانيا.

إذ إن القرارات التي اتخذتها القيادات السوفياتية داخل الاتحاد على مر العقود، من نقل مناطق من جمهورية إلى أخرى، بات مادة صراع بين روسيا ما بعد السوفيات وجيرانها.

كما أن انتقال مجموعات سكانية إثنية بين حدود جمهوريات الاتحاد السوفياتي، كما حدث مع إستونيا، وليتوانيا، ولاتفيا، أيضاً أسس لأزمات سياسية وثقافية مستمرة. ومن أصعب الأزمات هي التي نتجت من فك الارتباط بين روسيا وأوكرانيا.

فهذه الأخيرة تركت الجمهورية السوفياتية الروسية في 1991 و”أخذت معها”، برأي الروس، جزءاً من روسيا، وهي القرم وشرق أوكرانيا. كما أدى الانفصال السريع لتواجد ناطقين بالروسية في شرق الجمهورية الجديدة. أما كييف فهي ترفض المطالب الروسية وتؤكد أن القرم هي منطقة أوكرانية وإقليم دومباس في الشرق هو أوكراني أيضاً. واستمر الخلاف في عهد يلتسين في التسعينيات من دون تصعيد روسي.

ولكن قدوم بوتين إلى السلطة غيّر في الموقف الروسي. فالقيادة الجديدة رأت بعين الحذر دخول دول البلطيك وأوروبا الشرقية في الحلف الأطلسي والتقدم باتجاه “الأراضي القومية” الروسية. قادت الأزمة المتصاعدة إلى ازدياد التحديات بين كييف وموسكو، ضف إلى ذلك الصدام في المصالح بين الأوليغارشيات الروسية والأوكرانية حول مسائل مالية، ومن بين الملفات الساخنة مرور أنابيب الغاز الروسي عبر أوكرانيا والخلافات المالية حولها.

في 2014 قررت موسكو أن تجتاح (أو أن تسترجع برأيها) القرم، وتدعم انفصاليين ناطقين بالروسية في دومباس. واستمرت الأزمة متصاعدة حتى 2021.

في السنوات الماضية، تقول موسكو إن الحلف الأطلسي “يحاول تطويقها في أوروبا والقوقاز” بنشر قوات إضافية في البلطيق ونشر صواريخ في دول محاذية لحدودها.

وتضيف أن الوجود العسكري الأطلسي الأميركي يقترب من أراضيها من جيورجيا، إلى البحر الأسود، إلى الجمهوريات البلطيقية. وفي المقابل تتذمر واشنطن من وجود عسكري روسي في فنزويلا، وليبيا، وبعض دول الساحل، وسوريا، ومن طلعات جوية للقاذفات الاستراتيجية الروسية بالقرب من السواحل الأميركية والأوروبية. الموقف الروسي الذي كان ليناً بعد انتهاء الحرب الباردة بات أكثر تشدداً في العقد الماضي. في ما يتعلق بالشرق الأوسط تتهم روسيا إدارتي أوباما وبايدن بدعم الميليشيات الإسلاموية في كل المنطقة، وينتقد كثيرون في الولايات المتحدة دور موسكو الداعم لإيران في الشرق الأوسط.

من هنا فمشكلة أوكرانيا بالنسبة إلى القيادة الروسية هي مزدوجة: أزمة حدود مع جارتها الأوكرانية وأزمة نفوذ مع منافستها الأميركية. فهل تذهب موسكو إلى الحرب بسبب المشكلتين؟

أجندة أوكرانيا

القيادة الأوكرانية واضحة في مطالبها العلنية ولكن لها أجندة استراتيجية معقدة لا تلائم روسيا. فكييف تطالب بفكفكة الميليشيات المؤيدة لروسيا في شرق البلاد، وسحب أي دعم روسي لها. كما تطالب باسترجاع شبه جزيرة القرم كاملة لسيادتها الوطنية.

أوكرانيا تنطلق من مبدأ وحدة أراضيها ومعارضة أي تدخل روسي في “شؤونها الداخلية”، رافضة مناقشة “ملكية” القرم ما قبل الاتحاد السوفياتي، أو تقرير مصير “الأوكرانيين الشرقيين”. وتطالب كييف من بروكسل وواشنطن – في محادثات غير مرئية- أن يتم قبولها في الناتو ونشر قوات أطلسية بمواجهة الجيش الروسي، والاشتراك بالمواجهات إذا تقدمت “القوات الغازية”.

على صعيد القانون الدولي الحديث لأوكرانيا حق واضح في المطالبة بوحدة أراضيها. ويرد الروس أنه يحق للأوكرانيين الشرقيين أن يطالبوا “بحق تقرير المصير” وعلى المجتمع الدولي دعم هذا الحق المنصوص عليه في القانون الدولي أيضاً.

ويضيفون أن أهل تلك المناطق “جزء من الشعب الروسي” ولهم حق بإقامة دولة مستقلة كما حدث في البوسنة وكوسوفو. أوكرانيا ومعها معظم أوروبا ترفض “تقسيم الدولة الأوكرانية” وتحذّر من أن ذلك سيعرض دول أخرى في أوروبا لأطماع تقسيمية أيضاً.

المواقف الأوروبية

الأوروبيون موحدون بالشكل ومنقسمون بالفعل. الاتحاد الأوروبي رسمياً يندّد بالحشود الروسية ويرفض التدخل الروسي العسكري ويهدد بعقوبات قاسية إذا تم الاجتياح.

والتزمت بروكسل بالوقوف مع واشنطن في وضع عقوبات أطلسية جديدة إذا لزم الأمر. بريطانيا ذهبت إلى الأبعد إذ إنها أرسلت سلاحاً للقوات الأوكرانية وأعلنت أنها سترسل عتاداً وربما قوات. في الوسط تقف ألمانيا ضد تسليح أوكرانيا مع أنها تندد بأي عملية عسكرية روسية ولكنها لن تقف بوجهها. البلطيق وبولندا تقف في خندق واحد مع أوكرانيا. هنغاريا تتواصل مع روسيا. فرنسا لا تريد حرباً بين الطرفان. بقية الدول الأوروبية تتوزع بين حكومات ومعارضات تتبنى مواقف متميزة.

أميركا منقسمة

إدارة الرئيس بايدن وكتلتها في الكونغرس يهددون بعقوبات تصاعدية ضد موسكو إن أرسلت جيشها إلى داخل الأراضي الأوكرانية. والتزموا بإرسال معدات وأسلحة إلى كييف. وقد انتشرت بعض الوحدات العسكرية واللوجستية تهيئة لذلك.

المحافظون منقسمون. جزء منهم، بخاصة المحافظين الجدد والصقور القديمة، ينتقدون بايدن “لضعفه” أمام بوتين ويقرعون طبول الحرب الشاملة في أوكرانيا. يقابلهم “المحافظون الانعزاليون” ومنهم بعض الصحافيين، ينددون بأي تدخل في “حرب أجنبية” وإرسال قوات إلى الأراضي الأوكرانية. وتدخل اللوبيات القريبة من روسيا وأوكرانيا في المعركة الإعلامية الطاحنة، وهي تقسم اليسار كما اليمين. ويبقى السؤال مفتوحاً: ماذا ستفعل واشنطن إذا حصل الاجتياح؟

سيناريوهات

يصعب تحديد السيناريوهات في الأزمة الأوكرانية لأسباب عدة. أولاً، المفاوضات جارية على كل المحاور في لعبة شد حبال شاملة ومعقدة. فالكل يتكلم عن الحرب، ولكن ليست كل الأطراف مستعدة لخوضها كلياً.

أوكرانيا ستتحمل أوزارها على أرضها. روسيا ستدخل في مواجهة مكلفة على أرض أوروبية ولا تعرف كيف تنهيها. الولايات المتحدة تخرج من حروب الشرق الأوسط لكي تدخل حرباً في قارة جديدة في ظل أوضاع داخلية غير مريحة.

الدول الأوروبية تحاول تجنب الحروب الكارثية داخل القارة. إذاً بشكل عام، الأطراف المعنية كروسيا وأوكرانيا تقرع طبول المواجهة العسكرية، ولكن كل الأطراف هي متداخلة في محادثات دبلوماسية من تحت الطاولة للوصول إلى حل، أو حلول، تتجنب المعارك، غير أن المسألة غير سهلة. ولكن إذا وقعت الواقعة وانزلقت الساحة إلى الوضع القتالي، هل هنالك سيناريوهات ممكن انتظارها؟

1 – الاجتياح الشامل: وهو الأصعب والأكثر دماراً وتكلفة. أي أن تغزو روسيا كل أوكرانيا، وصولاً إلى كييف وتقيم نظاماً جديداً يؤيدها. هكذا سيناريو كارثي يصعب تصوره ولكن كثيرين في الغرب يخشونه ويستعدون له. إذا حصل فسيلزم الناتو بالتحرك والانتشار المكثف حول أوكرانيا وسائر حدود أوروبا الشرقية مع روسيا.

2 – الاجتياح الإقليمي: أي أن تسيطر موسكو على منطقة دومباس في شرق أوكرانيا، والشاطئ الأوكراني من الحدود الروسية حتى الجسر الجغرافي إلى القرم، وربما أكثر. لكن من دون احتلال أوكرانيا الغربية والعاصمة. وحتى هكذا سيناريو قد يكون مكلفاً عسكرياً ومالياً، إلا أنه ينفذ ما تريده موسكو عملياً.

3 – دعم أوكرانيا شرقية

بدلاً من اجتياح واحتلال، وفقاً لهكذا سيناريو، تتقدم القوات الروسية في شرق أوكرانيا، وتسلمها للانفصاليين لإعلان دولتهم. أي أن تتحول دومباس والمناطق المحيطة كمنطقة عازلة بين روسيا وأوكرانيا.

4- سيناريو لا اجتياحات ولا مواجهات بل حل سياسي يرتكز على إجراء استفتاءات في الشرق، وحتى القرم، بإشراف دولي، لحل الأزمة قانونياً. وهو حل اقترحناه للكونغرس منذ سنتين وأخيراً.

وقد تأتي التطورات بسيناريوهات ممزوجة بين تلك التي عرضناها، أو حتى لا سيناريو إطلاقاً، بل استمرار الستاتيكو. المسألة الآن هي بين يدي المفاوضين العلنيين والسريين.

لنرى

زر الذهاب إلى الأعلى