ماذا بعد «تَجاهُل» واشنطن.. «الهواجِس» الروسِية للضمانات «الأمنِية»؟
بقلم: محمد خرّوب
النشرة الدولية –
بارتفاع منسوب التراشق الإعلامي العنيف الذي تبدّى في اليومين الأخيرين بين روسيا والمعسكر الغربي, الذي تقوده الولايات المتّحدة/وبريطانيا ورهط الدول التابعة لواشنطن من دول أوروبا الشرقية، تبرز في الأثناء التصريحات اللافتة التي أدلى بها الرئيس الروسي بوتين أول أمس خلال قمّة جمعته برئيس الوزراء الهنغاري، قال فيها: إنّ موسكو لم تتلقَ جواباً «مناسباً» من واشنطن وبروكسل/الناتو، على المطالب الروسية الثلاثة بعدم تمدّد الناتو شرقاً والتخلّي عن نشر أسلحة هجومية قرب حدود روسيا وإعادة البنية العسكرية للحلف في أوروبا إلى خطوط العام 1997.. مستطرداً في إشارة لاذعة تستبطِن إصراراً روسِياً على رفض تملّص الولايات المتّحدة من هذه الالتزامات, تكريساً للواقع الميداني الذي نشأ بعد ذلك العام، إضافة بالطبع إلى رفض بوتين سياسة «الأبواب المفتوحة» للناتو الذي يصرّ/الناتو على تمسّكه بها، كونها -في نظر بوتين- لا تحمل صيغة قانونية. مُشيراً/بوتين: وعدونا بعدم تقدّم الناتو «بوصة واحدة» نحو الشرق، لكنّهم «خدعونا» وتصرّفوا بشكلٍ آخر.
فهل ثمّة ما يوحي بأنّ بوتين بصدد التراجع, على ما تروّج به وسائل الإعلام الغربية وفي مقدّمتها الأميركية والبريطانية؟ وهل فعلاً بات بوتين في وضع لا يُحسَد عليه وأنّه يبحث عن «مَخرج» بعد المأزق الذي أوقع نفسه وبلاده فيه؟
من السذاجة الاعتقاد أنّ بوتين ودوائر المستشارين والأجهزة الاستخبارية والعسكرية الروسية المحترفة، لم تأخذ في الاعتبار الرفض الأميركي/و«الناتوي» للمطلب الروسي (بضمانات أمنية مكتوبة وملزمة)؟. ناهيك أنّ الاستعدادات العسكرية الروسية الضخمة المرئية والمتابعة استخبارياً وميدانياً من الاستخبارات الأميركية/والأوروبية ودوائر حلف الناتو، لم تكن مًجرّد «عرض قوّة»؟ وأنّ بوتين ووزارة دفاعه وأركان جيوشه إنّما أرادوا التلويح -مجرد التلويح- بحرب، سيتراجعون عن الانخراط فيها, حال «أظهر» الرئيس الأميركي بايدن المتهم بالضعف وغياب الإرادة وانخفاض شعبيته المتراجعة باستمرار.. «عيناً» حمراء لسيد الكرملين، ما سيفضي -من وجهة نظر الغرب- إلى انكفاء مذلّ للعسكرية الروسية وقائدها الأعلى (رتبة بوتين في الهيكل السياسي والعسكري الروسي)؟
ردود الفعل الروسية السياسية والاتصالات الواسعة التي تقوم بها موسكو كذلك، والدبلوماسية (ما شهدته جلسة مجلس الأمن الدولي من تراشق واتهامات متبادلة بين المندوبين الروسي والأميركي)، إضافة إلى تواصل الحشود العسكرية الروسية على أكثر من جبهة، خاصة في بيلاروسيا والبحر الأسود والحدود الروسية/الأوكرانية بما في ذلك تلك الملاصقة لإقليم دونباس.. تشي كلّها بأنّ بوتين لم يتخلّ عن الخيار العسكري كخيار آخر, إذا ما وجد نفسه مُضطراً إلى ذلك، لكن بعد استنفاد كلّ الفرص والحلول وبعد قراءة عميقة (لم تنتهِ بعد) للردّ الأميركي على رسالة الضمانات الأمنية التي طالبَ بها بوتين واشنطن وبروكسل/الناتو، رغم أنّ موسكو تواصل التأكيد أنّها «لا» تريد الحرب ولا تسعى إليها، وأنّ «الحرب» هي «مطلب» أميركي لن تتجاوب معه روسيا، إذ تطرح الأخيرة تنفيذ أوكرانيا ما عليها من التزامات وفق صيغة مينسك، وما اتفقت عليه رباعية النورماندي التي تضمّ كما اتفاق مينسك 1 و2.. روسيا فرنسا، ألمانيا وأوكرانيا، إذ تفرض على كييف الاتصال بممثلي جمهوريتي الدونباس/لوغانسك ودونيتسك، للبحث في الصيغة التي تمّ التوصل إليها بشأن «الترتيبات”/التعديلات التي يجب أن يتضمّنها الدستور الأوكراني لضمان عودة الإقليم إلى قوام الدولة الأوكرانية.
روسيا التي يكاد المرء أن يقول دون الوقوع في آفة التسرّع والاستسهال، إنّها «ربِحت» الحرب دون قتال (حتى الآن)، تواصل إبداء ضبط النفس وعدم إيصال الأمور إلى نقطة اللاعودة, التي ستأخذ الأوضاع حينها إلى مُربع «التفجير»، وضع لا يمكن ضبطه أو التحكّم بمساراته وسيرورته, حال توسّعت الجبهات وازداد عدد الدول المنخرطة فيه. لهذا أيضاً تتواصل «المناورات» غير العسكرية التي تقوم بها موسكو كما واشنطن وبروكسل/الناتو ودول أوروبية مؤثرة مثل ألمانيا وفرنسا وبعض دول شرق أوروبا، لإيجاد صيغة مقبولة على الأطراف كافة, تمنح موسكو (المُطالبة بضمانات أمنية) شعوراً بالطمأنينة. لن تكون كافية إلّا إذا تمّ ضمان عدم قبول أوكرانيا/وتلقائياً جورجيا في حلف الناتو، وهو أمر ما تزال واشنطن (حتّى الآن أيضاً) تُبدي معارضة شديدة له, رضوخاً لأصحاب الرؤوس الحامية في واشنطن، خاصّة جنرالات البنتاغون وحزب الحرب في الكونغرس ووسائل الإعلام الأميركي.
في الخلاصة، التلويح بالعقوبات القاسية والمدمّرة التي تشلّ الاقتصاد الروسي, كما مواصلة دبلوماسية «مُكبِّر الصوت» التي تنتهجها واشنطن في مجلس الأمن والمحافل الدبلوماسية، لن تخيف موسكو ولن تدفعها للتراجع، لأنّ بوتين قطع شوطاً طويلاً ومهماً في اتّجاه رفض الخضوع لسياسة الأمر الواقع, التي تعمل عليها واشنطن بشان تمدّد الناتو نحو حدودها.