الكاتب يوسف طراد يقرأ هدى بركات في ” حارث المياه ” : انتظار لفجر الوطن القادم على مهل
النشرة الدولية –
ميزان الزمان –
ضمن رواية “حارث المياه”، اِلتزمت الروائية هدى بركات السلاسة والوضوح في قضايا الوطن، وتحسّست أوجاع شعبه المعذّب المشرذم، وباحت بسطور منفعلة حارّة، واصفة خطوط التّماس والشوارع المهدّمة الخالية إلًا من الكلاب الشاردة، في مدينة بكت على حالها وجمالها، ولم تجد من يمسح وجهها بمنديل. فقد جاءت جمالية السرد من خلال ازدواجية الحبّ والتّشرد، ودمج قصة القماش مع أخيلة شوارع بيروت الخاوية.
دمجت الكاتبة الرواية مع دراسة شاملة، تناولت فيها بجهد المستقصي، والمتتبّع، وعلميّة الباحث النزيه الحريص، حكاية النسيج منذ فجر التاريخ، وقد رسمت بوضوح خط تطوُّره، من حيث أصله أو شكله، أو ما يعنيه للشعوب والملوك. ومكّنت القارئ من النظر نظرةً مختلفة لكل نوع من قماش الألبسة التي سترته والتي سيرتديها مستقبلَا.
ولأنّ الكتّان في قوّته رمزٌ للطهارة، توغّلت هدى بركات في أقطاب الأرض الأربعة، كرسولة تختال بزهوها الرّقيق، على ضفاف التّاريخ المتأرجح بين جنون الملوك والقبائل وارتحال القوافل. وأيقظت حكاية الكتّان من خفايا العتمة، ليتأنّق صحوًا على الصدور العاجيّة، حاجبًا نهدين ارتجلا البوح الشقي، ولم يتواريا خجلًا، بل تهاديا أنشودة شغف، لارتشاف بوحهما القرمزي من حلمتي أرجوان ومرجان، “لا، لا تُعطني ثدييك كاملين دفعة واحدة”.
أطلقت الرّوائيّة عنان يراعها، بانسيابيّة البوح الجميل، ومدحت “البعد الثالث للقماش” فتمادت عشقَا مع المخمل، وفاقت النسّاجين في رسم الخطوط ومزج الألوان إبداعًا مع السطور، ففاقت(جيمس كلارك ماكسويل) الذي مزج ثلاثة ألوان، بتقنية سمحت له باختيار الزنجفر، والزمرد، واستعمال العاج الأسود، فظهرت ظلالٌ بهية من الألوان، كبحت التعسفيّة منها، وظهر لون النور الذي يشابهه المخمل برونقه، ذلك النسيج الذي يدخل البهجة إلى العقول قبل لمسه، من خلال لعبة النور واللون، و”هكذا خرج السجّاد من البساط الصوفي”.
تخطّت الكاتبة “تقنيّة الظلّ والضوء” التي أعطت للدمقس تلاوين متغيّرة “كلّما تحرك القماش أو اهتزّ” وجعلتنا نشتهي امرأة شقية جميلة، فارتحلت الحواس الجيّاشة بخجل نحو جسدها، من خلال تخاريم الدنتيل، ليشتهي النظر القليل المحجوب، في صراعه مع العقل في اختيار المرغوب، كاشتهاء العودة إلى المراهقة مع النهد الأوّل، حيث داعبت أفياء السنديان الغض، وزهر النرجس، أجسادًا مرتعشة براءةً فوق براري العشب الندي.
أصغت هدى بركات لألم النساء الصامت، التوّاقات للمسات الحرير الباسم الرقيق. فمن يحصلن منهنّ عليه، ويعرفن قصّته، تولد فيهنّ رعشات غافية منذ أزمنة، رعشات تنهض من كبوتها، لتوقظ عاصفة من الأعماق، عاصفة تدمّر في طريقها بقيّة الأحاسيس. يطغى حبّ النسيج الحي على كلّ حبٍّ، ويولّد الألم في قلب البعل، الذي يغرق انتظاره الرمادي في سبات الأسرّة الخاوية، حيث يصبح الوصال مستحيلًا مع الحبيب. ويسيطر وحي نسيج أبيض يدثر الحبيبة في واحة أحلام زاهرة بين السماء والماء. ويتأنّق جسدها لشهوة عارمة، في ذوبان رحيق، ولمسات نسيج أسطوري يروي شذرات الأنوثة، من ملمسه الناعم الطامح بالغوى همسات في سكون الليل. فقد حدّثتنا الروائيّة بغبطة الحرير الأزلية، في أحضان عشيقاته الملهوفات لارتدائه، حيث ورد في الصفحة ١٦٢ من هذه الرواية: “إن هؤلاء النساء لا يجمعن صورتنا إلى الحرير حين يضاجعنه. لا للمسه ولا لأصواته أو صراخه علاقة بنا، بأجسادنا أو بأعضائنا… ليس هناك سوى الحرير وعذاب اللذّة به ومتعة ذلك العذاب منقطعَا عن كلّ سواه. ينصرفن إليه فقط. منقادات إليه دون خيار”.أفرخت الحرب في أحشاء المدينة، فاستدرك بطل الرواية فرار الأمكنة وأصحاب المتاجر، وسرى في عروقه حنين عائد إلى بداية الحرب، وضجّ الأفق بلعلعة الرصاص. لم تستيقظ المدينة من غفوة أكياس الرمل، والبراميل المشقوعة على خط تماس ينزف في قلب بيروت. فخفافيش الليل نهشت ذاكرة الفرح، وسرحت نهارًا في السماء عصافير الموت، وسيطر السواد الشاحب على الشوارع ببصمات القتلة. وحده صوت فيروز، جعلنا نحلم بوطن سعيد ووردة حمراء، ونمتشق عزيمة الحياة وننثرها على امتداد الجرح.
لم تبتسم الكراسي الفارغة للرحيل، حتّى لا تخدش صورة الوطن والشرق الساحر “ثم شاهدت بحرًا من الكراسي الفارغة، مصفوفة في مربّعات كمربّعات الجنود المشاة، موضبّة في خطوط متوازية تتّجه كلّها صوب الشاطئ”.
ترك حارث المياه سؤالًا بدون جواب فوق غبار الكراسي، ولم يتعب البحر من ركضه بلهفة على الرمل العاري، حيث صافحته موجة هاربة من أسر عاصفة هوجاء. وكانت سكّته صنّارة بيضاء، رماها على المياه الصاخبة، فانتفض الوعد من سبات النسيان، وهادن السحر في فُرُوهَة الشروق من وراء الجبل الأخضر.
تباهى النور شموسًا على صفحات المياة المتوّردة بصفاء الأرواح، عندما أعادت هدى بركات الحياة لحارث المياه الذي لم يعلم إذا فارقته أو فارقها، كان ذلك قبل أن تتّشح بيروت بالديباج الأسود والزجاج المتطاير بعد عصف الرابع من آب، مستخفة بعشق الشعوب لها، منتظرة فجر الوطن القادم على مهل.