“دفرسوار الأنبار”… جسر إيراني إلى القلب؟
بقلم: وليد فارس

واضح أن طهران تبغي السيطرة على العراق بكامله وبكل مكوناته

النشرة الدولية –

وإذ تتصاعد المواجهات في اليمن حيث تتقدم ألوية العمالقة والقوات النظامية على حساب الميليشيات الحوثية، بدعم من طيران التحالف. وإذ تطلق المنظومة الممسوكة من طهران صواريخ باليستية و”درونات” على أهداف مدنية في عمق السعودية والإمارات. وفي وقت يعزز فيه “حزب الله” قواعده العسكرية في لبنان، وتبني “البسدران” منصات الهجوم في سوريا، بدأت بوادر فتح جبهة إيرانية جديدة في المنطقة، كانت دائماً منتظَرة، وهي منطقة “الأنبار”. فما أهداف طهران في هذه البقعة المهمة من العراق، كيف ستتعاطى معها الولايات المتحدة، وما قد تكون ردة فعل التحالف العربي، وكيف ستؤثر هذه التحركات الإيرانية في المعادلات الإقليمية المتأزمة؟

حتى “داعش”

منذ تأسيس العراق الحديث، لعبت محافظة الأنبار دوراً وطنياً في العلاقات الداخلية في البلاد، واختبرت كغيرها من المحافظات كل المراحل المستقرة أو الصعبة، قبل حكم البعث وبعده، وتحت الاحتلال الأميركي وبعده. إلا أن المرحلة الحاسمة التي مرت فيها الأنبار ولا تزال، هي تلك التي شهدت تعرض هذه المحافظة ذات الأكثرية العربية السنية، بعد الانسحاب الأميركي، إلى اجتياحين إرهابيين: الأول مباشرة بعد أن أمرت إدارة أوباما بخروج القوات الأميركية من العراق في نهاية 2011، فدخلت الميليشيات المؤيدة لإيران وشرعت في قمع العشائر والسكان المحليين. ثاني اجتياح أتى تقريباً كحركة معاكسة، فانقض “داعش” على الأنبار والمثلث السني، فنكَّل بالبشر وصدم المجتمع، مما دفع بالتحالف الدولي والولايات المتحدة إلى العودة للعراق وشن حملة عسكرية على التنظيم وفكفكته. وأسهمت القوات النظامية والعشائر في المواجهة إلى جانب الأميركيين. ومع إنهاء القاعدة الجغرافية “للخلافة الداعشية”، بدأت تظهر علامات على وجود نيات إيرانية “بالعودة إلى الأنبار”.

الأنبار بعد الانسحاب الثاني

طالما كان الأميركيون والتحالف والجيش العراقي يقاتلون “داعش” منذ عام 2015، ويُسقِطون مواقعه تدريجاً منذ عام 2017، بينما لم تطلق “قوات الحشد” حملتها الكبرى للسيطرة على الأنبار بعد، ليس فقط لأن التحالف كان يمنعها، ولأنها كانت تخشى ردات فعل “داعش”، ولكن السبب الأكبر كان خطط إيران بأن يقوم التحالف والأكراد بدحر الدواعش، ويتمدد الحشد في الأنبار تدريجاً بعد إجلاء “داعش”، وليس قبل. فكانت الميليشيات “الخمينية” توجد في محيط المنطقة وتتمدد جزئياً على الحدود العراقية – السورية، ولكنها تتموقع بانتظار الانسحاب الأميركي الثاني من العراق. خلال السنة الأخيرة من رئاسة ترمب، تسللت الفصائل الإيرانية بالقرب من المواقع الأميركية في الأنبار، وشنت بعض الاعتداءات الهادفة للضغط على الأميركيين لدفعهم إلى الانسحاب من المنطقة، ووصل التصعيد إلى حد قصف قاعدة عين الأسد بعد تصفية قاسم سليماني. إلا أن ضبط النفس في آخر مرحلة من عهد ترمب تحول إلى استراتيجية انتظار إبان أول عام من ولاية الرئيس الحالي جو بايدن بسبب العودة للتفاوض بشأن الاتفاق النووي في عام 2021. إلا أنه يبدو أن السيطرة على الأنبار باتت على أجندة طهران هذا العام. لكن لماذا؟

لماذا تريد إيران الأنبار؟

سياسياً، واضح أن طهران تبغي السيطرة على العراق بكامله وبكل مكوناته. وعلى الرغم من أن سكان الأنبار أقل عدداً من المحافظات الأخرى الأكثر اكتظاظاً، فإن معارضتهم التاريخية للنفوذ الإيراني تجعل من هذه المنطقة حاجزاً أمام ابتلاع البلاد وترويض مكوّنها العربي، لا سيما السني فيه. لذلك تستمر القوى المؤيدة لطهران بالضغط على الأنباريين وتياراتهم وبلداتهم، وتحاول تقليص نفوذهم في بغداد. وتسعى في الوقت نفسه إلى خرق صفوفهم وتخلق مجموعات مؤيدة لـ”الحشد” داخل منطقتهم، مثلما تفعل إيران في المجتمعات المعارضة لها من العراق إلى لبنان. إلا أن الهدف الأعمق للنظام الإيراني في الأنبار هو جيو-سياسي فائق الأهمية استراتيجياً.

أ- الأنبار بشكل عام، وبخاصة الفلوجة والرمادي، هي مناطق على تماس جغرافي مع بغداد الكبرى، وبالتالي فإن أي قوة متمركزة في المحافظة، أو عابرة لها، قد تشكل خطراً مباشراً على الميليشيات المؤيدة لإيران. وبالتالي على هذه القوات غير النظامية أن تنتشر في عمق الأنبار “لحماية” مراكز النفوذ الإيراني في العراق.

ب- تأوي المنطقة قوات أميركية، لا سيما في موقع قاعدة عين الأسد جنوب حديثة، وهي القاعدة الاستراتيجية الكبرى، القادرة على استيعاب الطيران الحربي، والصواريخ، والرادارات، والمشاة، والقوات الخاصة، إذا قررت واشنطن أن تتحدى الميليشيات الإيرانية، أو أن تمنعها من التواصل مع مجموعاتها المنتشرة في سوريا.

ج- تضم منطقة الأنبار بنظر الإيرانيين معارضة شديدة لنفوذهم، وهي ملاصقة لمناطق قد تتأثر بمَن يسيطر على المحافظة بعد الانسحاب الأميركي الكامل. وأهم تلك المناطق كربلاء والنجف حيث يريد الإيرانيون سيطرة بلا منازع، وأيضاً نينوى، حيث الجسر الجيوسياسي الذي يربط الأنبار بالموصل، وعبرها التواصل مع كردستان. ومن الواضح استراتيجياً أن الترابط بين كردستان ونينوى والأنبار يرفع جداراً عالياً وعميقاً قد يقطع التواصل بين إيران وسوريا و”حزب الله” في لبنان. فإذا خرجت الأنبار عن سلطة الحشد والميليشيات الأخرى، ستخرج نينوى معها ويقوم الجدار. وإذا سيطرت القوات الخمينية، بطريقة أو بأخرى على هذه المساحة الاستراتيجية في العراق، لن تتمكن أي قوة مناهضة لإيران من أن تقيم عازلاً على الحدود مع سوريا. لذا فمن زاوية استراتيجية بحتة، تهدف القيادة الإيرانية إلى أن تتحكم بالأنبار بعد الجلاء النهائي للقدرات الأميركية من كل أنحاء المحافظة والالتزام بعدم العودة إليها.

المعادلة الأخطر

ولكن إلى جانب هذه الأجندة، وأبعد منها إقليمياً، تشكل الأنبار جغرافياً منصة للانطلاق من العراق باتجاه الجنوب وجنوب الشرق، نحو الأهداف القصوى، التي قامت على أساسها النظرة العالية للثورة الخمينية. وتقدمتُ بهذه القراءة الاستراتيجية المستقبلية للكونغرس، والقيادة المركزية CENTCOM، وأجهزة التحليل لدى الاستخبارات منذ 15 سنة، إبان قمة الوثبة الميدانية الأميركية ضد فصائل “القاعدة” في العراق الذي عرفت بالـSurge. وأساس التقييم (Assessment) يدور حول الطرق الاستراتيجية التي تريد إيران، سلوكها لتنفيذ سيطرتها في المنطقة. وحاولت أن تسلكها ما بين عامَي 2012 و2014، ومهدت لذلك خلال حملة أولية في السنتين المذكورتين لتركيع الأنبار بعد سحب إدارة أوباما القوات الأميركية في نهاية عام 2011. إلا أن اجتياح “داعش” الأنبار دمر المشروع، ففرت الميليشيات باتجاه بغداد والجنوب والشرق، وتكبد الجيش العراقي خسائر فادحة بما فيها في منطقة الموصل. فقاومت قوات البشمركة المتراجعة وبعض الوحدات النظامية العراقية، تقدُّم “داعش” الذي جعل من الأنبار قاعدة انطلاق لغزو مناطق أخرى. وتم تحرير الأنبار من قبل “التحالف الدولي ضد داعش” بقيادة الولايات المتحدة، التي أبقت بعض القوات لمكافحة الفلول الداعشية. ولكن سرعان ما تموقعت ميليشيات “الحشد” لاسترجاع الأنبار، في كل ناحية تخلو من خطر عمل عسكري أميركي. وتبين أن الاستماتة لإعادة غزو الأنبار من قبل الخمينيين تستهدف إعادة الانتشار على الحدود الدولية لهذه المحافظة العراقية.

1- الهدف الحيوي لـ”الحشد” هي أطراف الأنبار على طول الحدود العراقية – السورية. فإذا سقطت هذه الحدود نهائياً بأيدي إيران، يتأمن التواصل الجيوسياسي الثابت بين إيران و”مستعمراتها” على المتوسط. والمساحات الأنبارية هي الأسهل للسيطرة العسكرية.

2- تتشارك الأنبار بحدود مع الأردن، ما سيسمح لطهران أن تضع ضغطاً متصاعداً على المملكة الأردنية عبر منطقة صحراوية ثابتة وغير متداخلة في الحرب الأهلية السورية. استراتيجياً، ستتمكن إيران، عبر ميليشياتها، من نشر صواريخ باليستية على طول تلك الحدود مع الأردن، لتوجيهها باتجاه إسرائيل، كتكملة للقواعد الصاروخية في سوريا ولبنان، بمثابة طوق واسع. ويلي ذلك دعم إيراني للمجموعات الإرهابية داخل الأردن انطلاقاً من الأنبار.

3- الحدود مع السعودية. للميليشيات الخمينية قدرة على شن اعتداءات على السعودية والإمارات والخليج، عبر انتشارها على حدود محافظات النجف والمثنى والبصرة، مع الكويت وبخاصة السعودية. والاعتقاد أن القيادة الإيرانية قد تستعمل هذه الحدود العراقية عبر ميليشياتها لمهاجمة السعودية، ما لم يتم ردع النظام. إلا أن مخططي الحرب في طهران مدركون أن حدود الأنبار مع السعودية قد تتحول إلى “دفرسوار” Deversoir ضد أي انتشار معادٍ للمملكة من داخل العراق. لذلك، فإن إحدى أهم المناورات بنظر “الحرس الثوري” هي الانقضاض على شريط داخل الأنبار على طول حدود المحافظة مع السعودية. وبهذا الشكل ستسعى إيران إلى استخدام الأنبار كدفرسوار شمالي ضد المملكة، مع كل ما يعني ذلك من تهديد صاروخي.

التحدي

هذا السيناريو هو ما تريده إيران من مسألة الاستيلاء على الأنبار. ولكن ما بين هذا الهدف الثقيل وتحقيقه تقف عوائق عدة:

أولاً، القوات الأميركية المتبقية في العراق، وتلك المنتشرة في الشرق الأوسط.

ثانياً، الجيش العراقي ومواطنو الأنبار.

ثالثاً، قراءة إسرائيل لتطور كهذا، وهي التي تشتبك مع إيران في سوريا.

رابعاً، وربما الأهم إقليمياً، هو موقف التحالف العربي من مشروع كهذا. فلا المملكة ولا شركاؤها سيقبلون بتطويق الإرهاب الجزيرةَ العربية من أراضٍ عربية.

Back to top button