الصين وروسيا وأميركا: صراع قوميات لا أيديولوجيات
بقلم: رفيق خوري
"الواقع أن ليس هناك نظام عالمي لتقويضه فالنظام الأحادي الأميركي بعد انهيار الاتحاد السوفياتي انتهى"
النشرة الدولية –
الرئيس فلاديمير بوتين حضر افتتاح الألعاب الشتوية في الصين، والرئيس جو بايدن قاطع. كانت هذه فرصة إضافية لإكمال انقلاب الأدوار على قمة العالم. في الحرب الباردة بين أميركا والاتحاد السوفياتي، كانت الصين إلى جانب أميركا بمبادرة من الزعيم ماو تسي تونغ وتجاوب من الرئيس ريتشارد نيكسون وحماسة من الدكتور هنري كيسينجر، مستشار الأمن القومي، وشو إن لاي رئيس الوزراء. وكان “احتواء” الاتحاد السوفياتي ممكناً لأنه عملياً خارج السوق الرأسمالية العالمية.
في الحرب الباردة الجديدة، تقف الصين إلى جانب روسيا في مواجهة أميركا. ولا يمكن “احتواء” الصين التي أصبحت حارسة العولمة الاقتصادية وبلغ حجم التبادل التجاري بينها والولايات المتحدة ستمئة مليار دولار، فضلاً عن أن مبادرة “الحزام والطريق” التي رصدت لها الصين تريليون دولار، امتدت، حتى اليوم، إلى 60 بلداً في آسيا وأوروبا وأفريقيا والشرق الأوسط، ورافقتها سلسلة من “معاهد كونفوشيوس” لتعليم لغة المندرين والثقافة الصينية.
ومع صعود الصين إلى مرتبة الاقتصاد الثاني في العالم بعد الاقتصاد الأميركي وقبل الاقتصاد الياباني، فإنها تضيف في البناء العسكري إلى القوة البرية، قوة جوية وصاروخية وقوة بحرية، فضلاً عن أن بوتين نقل روسيا، بعد سقوط الاتحاد السوفياتي الذي كان القوة العظمى مقابل أميركا، من قوة إقليمية إلى قوة عالمية مملوءة بفكرة الانتقام من الغرب الذي أذلها بعد نهاية الحرب الباردة ومدَّ حلف “ناتو” إلى حدودها. والمعادلة عند بوتين هي: ألعاب تكتيكية في أوروبا والشرق الأوسط، ولعب استراتيجي مع الصين. وهي بالنسبة إلى الرئيس والزعيم الصيني شي جينبينغ: “قوة كونية علمية”، وقوة اقتصادية وعسكرية في “مركز المسرح العالمي”.
في مقال نشرته “فورين أفيرز”، تحدثت إليزابيت إيكونومي من معهد هوفر في جامعة ستانفورد عن “نظام شي جينبينغ العالمي الجديد”، ثم سألت: هل يريد شي تشكيل نظام عالمي جديد أم مجرد إجراء تعديلات على النظام القائم لحماية بلاده من انتقاد نظامها السياسي؟ وكان جوابها أنه يريد إحداث “تحوّل راديكالي” في النظام العالمي. وهو خاطب أعضاء مجلس الشعب بالقول: “نحن الأوائل في أمور عدة، وهذا يعود إلى الثقة الذاتية بنظامنا وثقافتنا، والآن حين يذهب جيلكم الشاب إلى الخارج، فإنه يقف بقامة مرتفعة ويشعر بالفخر”.
وهذا ما جرى التعبير عنه في “الإعلان المشترك عن دخول العلاقات الدولية عهداً جديداً” خلال زيارة بوتين. وملامح “الحقبة الجديدة” في إطار الخيار الاستراتيجي للعلاقات بين البلدين، تشكل مروحة واسعة جداً: “تعددية الأقطاب، العولمة الاقتصادية، بناء مجتمع المعلومات، تغيير منظومة الحوكمة العالمية وإعادة توازن القوى في العالم”. ومن الطبيعي توجيه انتقاد كبير لأميركا ضمناً من دون تسميتها بالقول إن “محاولة بعض الدول فرض معايير ديمقراطية خاصة بها على بلدان أخرى، تمثل إساءة إلى الديمقراطية وتشكل خطراً ملموساً على الاستقرار والسلام العالميَين والإقليميَين وتقوّض النظام العالمي”.
كلام كبير. لكن الواقع أنه ليس هناك نظام عالمي لتقويضه. فالنظام الأحادي الأميركي بعد انهيار الاتحاد السوفياتي انتهى. والنظام الجديد لم يولَد بعد. ما حدث هو أن أميركا تراجعت، ولو بقيت القوة العظمى الأولى، والصين صعدت، وروسيا استعادت بعض ما كان للاتحاد السوفياتي. هذا ليس نظاماً عالمياً جديداً، بل فوضى وتعددية أقطاب من دون نظام له ضوابط. والصراع الذي نراه الآن في أوروبا على حدود أوكرانيا وفي بحر الصين هو صراع قوميات ومصالح، لا صراع أيديولوجيات. فلا روسيا شيوعية كما كان الاتحاد السوفياتي بل رأسمالية تديرها “شلة أوليغارشية” تعمل في اقتصاد السوق. ولا الصين، على الرغم من كون الحزب الشيوعي هو الحاكم فيها، تريد نشر الأيديولوجيا الماركسية التي طورها ماو وزاد في تطويرها دينغ شياو بنغ. وهما معاً ضد “الثورات الملونة”. ولدى بوتين طموح لزيادة حجم التجارة مع الصين إلى 200 مليار دولار، فضلاً عن أن شركة “غاز بروم” وقّعت عقداً لتزويد الصين بـ10 مليارات قدم مكعبة من الغاز. وتبادل مع شي دعم كل منهما لمطالب الآخر القومية والأمنية في أوروبا ومنطقة المحيطين الهندي والهادي. واللعبة طويلة ومعقدة. ولم يجد السفير الروسي في الصين ما يصف به الحال أفضل من تعبير بلغة المندرين: “الآفاق مشرقة لكن الطريق متعرج”.