النظام الإيراني ومأزق عودة الإصلاحيين
بقلم: حسن فحص
المحافظون ولقطع الطريق على هذه التوجهات والرؤية التي يعمل عليها الحراك الجديد عادوا إلى طرح مشروع الاستفتاء على تحويل البلد من رئاسي إلى برلماني
النشرة الدولية –
حراك سياسي ولقاءات متعددة ومتشعبة ومركبة بدأت تظهر في المشهد السياسي الإيراني في الأسابيع الأخيرة، تهدف إلى بلورة مشروع سياسي يعيد إنتاج الثنائية السياسية التي سيطرت على هذا المشهد في العقدين الأخيرين، أي ثنائية المعسكرين اليسار واليمين أو الإصلاحي والمحافظ، لكن هذه المرة بأدوات وآليات ومسميات مختلفة.
أقطاب وقيادات لعبت أدواراً بارزة ومفصلية في الحياة السياسية الإيرانية سواء داخل قوى اليسار المعارض أو اليمين المحافظ في البداية، بدأت سلسلة من اللقاءات والحوارات انطلاقاً من إحساسها بضرورة إعادة إنتاج الخطاب الإصلاحي المعتدل الذي يساعد على مواجهة المرحلة المقبلة والتعامل مع المستجدات الاجتماعية والسياسية والأيديولوجية، بخاصة في ظل ما أفرزته الانتخابات البرلمانية 2018 والرئاسية 2021 من حقائق تصب في إطار مساعي قوى النظام والدولة العميقة لتعزيز قضبتها الممسكة بالدولة والنظام وإخراج القوى المختلفة معها، أو التي تملك رؤية لا تنسجم مع رؤيتها من ساحة العمل السياسي والثقافي والاجتماعي وحتى الاقتصادي.
المروحة الواسعة للأطياف المشاركة في هذه اللقاءات والحوارات، التي تمتد من القوى الإصلاحية المعتدلة ممثلة بزعيمها رئيس الجمهورية الأسبق محمد خاتمي، مروراً باليسار أو الإصلاح المعتدل في حزب “كوادر البناء” وحزب “الأمة”، وصولاً إلى اليمين المعتدل المتمثل في رئيس الجمهورية السابق حسن روحاني ومعه رئيسا البرلمان السابقين علي أكبر ناطق نوري وعلي لاريجاني، ونائب رئيس البرلمان الأسبق محمد رضا باهنر الذي انتقل من اليمين المتطرف إلى الاعتدال، تكشف عن حجم ما لدى هذه القيادات من مخاوف على مستقبل إيران السياسي، جراء التوجهات والسياسات التي بدأت تفرض نفسها على الواقع المحلي في التحكم بمؤسسات الدولة وإدارة النظام، وإمكانية أن يتفاقم هذا التوجه السلبي ما بعد غياب المرشد الأعلى الذي ما زال حتى الآن يسعى إلى أن يكون نقطة توازن بين هذه القوى من دون بذل أي جهد في إخفاء ميله لقوى الدولة العميقة التي تضمن استمرارية مشروعه في الإبقاء على آليات عمل النظام الذي أسس له على مدى العقود الثلاثة الماضية.
التيار المحافظ وقوى النظام والدولة العميقة، وعلى الرغم من إحساسها بما يشكله هذا الحراك من تحدٍّ لها، على المستويات السياسية والاجتماعية والأيديولوجية والعقائدية، فهي تحاول تبسيط الأمور وإفراغ أهداف هذه القيادات السياسية التي لعبت أدواراً مفصلية في حياة الدولة والنظام، من مضمونها، ومحاولة تأطيرها في قالب المساعي لتشيكل “حكومة ظل” هدفها تتبّع إخفاقات الحكومة القائمة برئاسة إبراهيم رئيسي، ليس من أجل تصحيح مساراتها، بل لإضعافها كمنطلق ومدخل يعيدان رفع حظوظها بالعودة إلى دائرة السلطة والقرار.
بغض النظر عما يقدّمه تيار النظام والسلطة من مسوغات لحراك هذه القيادات، إلا أن هذه اللقاءات العلنية وما تحمله من مؤشرات إلى جهود حقيقية وحثيثة لإنقاذ الدولة من الانزلاق نحو الاستبداد، يكشف أن كل الإجراءات التي لجأ إليها النظام ومؤسساته، سواء في محاصرة خاتمي وإبعاده عن المشهد السياسي، أو في مساعي محاكمة روحاني وتحميله مسؤولية الانهيار الاقتصادي وفشل إدارة الأزمة السياسية والعقوبات، أو إخراج لاريجاني من دائرة التأثير، فضلاً عن فرض العزلة على ناطق نوري، أن هذه الإجراءات لم تستطِع أن تحقق الهدف منها بأن تُخلي الساحة للقوى المحافظة للإمساك بالمشهد السياسي والتحكم باتجاهات الدولة وترجمة توجهات النظام في التأسيس لحكومة إسلامية.
في المقابل، لا تتردد هذه القيادات في الإفصاح عن الأزمة التي تواجهها في استعادة ثقة الأوساط الاجتماعية والثقافية والناشطة بالحياة السياسية وإعادة إنتاج خطاب جديد قادر على إقناع هذه الشرائح بإمكانية إنتاج مشروع سياسي لا يكون تهديمياً مخرباً، بل يعيد إحياء الأمل بإمكانية تحقيق العدالة الاجتماعية والسياسية بالحفاظ على الحياة الديمقراطية في إطار نظام جمهوري حقيقي.
وتعتقد هذه القيادات أن المدخل الأساس لتحقيق هذه الأهداف يبدأ من إعادة ترميم الخطاب الإصلاحي، بخاصة بعد النكسات التي أصيب بها في العقدين الأخيرين، وتراجع المشروع الإصلاحي الجذري التغييري إلى حدود الحفاظ على الإبقاء على حصته في السلطة والمشاركة في الدولة على حساب تطلعات وطموحات قواعده الشعبية التي أوصلته إلى مواقع الشراكة في القرار إيماناً بالخطاب التغييري الذي رفعه.
وإعادة إنتاج الخطاب الإصلاحي، تعني إعادة بناء الطبقة المتوسطة التي وصلت إلى حدّ التلاشي في الأعوام الأخيرة جراء تفاقم الأزمات الاقتصادية الناتجة من أسباب مركبة، تشارك في إنتاجها العقوبات الاقتصادية والحصار الأميركي، إلى جانب تعاظم دور المؤسسات الاقتصادية التابعة لأجهزة النظام والمؤسسة العسكرية على حساب القطاع الخاص الذي يُعتبر الحامل للطبقة المتوسطة التي تُعدّ القوة المحركة في أي مجتمع والحاملة الحقيقية لأي مشروع سياسي تغييري، ما يعني أن هذه القيادات ستكون أمام تحدي تقديم رؤية اقتصادية تعيد تحريك القطاعات الإنتاجية وترمّم الطبقة المتوسطة.
وتشكل مسألة الحفاظ على البعد “الجمهوري” للدولة الإيرانية، بما يمثله من ضمان لحياة الديمقراطية والتعددية والعدالة الاجتماعية والسياسية، الهم الأبرز لهذه القيادات، أولاً من مبدأ الوفاء للمنطلقات التي قامت عليها الثورة، وثانياً بما هو حاجة تفرضها التعددية والتنوع في الاجتماع الإيراني، بخاصة مع ما تكشفه سلوكيات جماعات الدولة العميقة عن تغليب مفهوم السلطة المطلقة ذات الطابع الديني الأيديولوجي لتكريس سلطتها وسيطرتها في إطار مشروع الحكومة أو الدولة الإسلامية.
وتسعى هذه القيادات إلى الدفع لإخراج الحياة السياسية في إيران من حالة الانسداد السياسي في ظل النصوص الدستورية القائمة التي سمحت لقوى النظام بفرض إراداتها، بالتالي دفع المرشد الأعلى إلى الموافقة على إجراء استفتاء على تعديل النصوص الدستورية التي تطال صلاحيات وموقع رئيس الجمهورية وإعادة ترتيب العلاقة بين الرئاسات الثلاث، إلا أن هذا المسعى يصطدم بخوف المرشد الدائم من أن يؤدي فتح الباب أمام الاستفتاءات الدستورية إلى طرح مسألة صلاحيات المرشد الأعلى ومفهوم ولاية الفقيه المطلقة.
المحافظون، ولقطع الطريق على هذه التوجهات والرؤية التي يعمل عليها الحراك الجديد، عادوا إلى طرح مشروع الاستفتاء على تحويل الدولة من نظام رئاسي إلى نظام برلماني، الذي يتضمن إعادة إحياء منصب رئيس الوزراء الذي يُنتخب، ويتم اختياره بالاقتراع الشعبي المباشر ويكون مسؤولاً أمام البرلمان.
إن حرص أي تحرك سياسي من خارج القوى المحافظة على عدم استفزاز النظام، باعتماد تسميات تراعي حساسياته وحساسيات قيادته غير قادرة على استيعاب فكرة وجود قوى إصلاحية أو معارضة لإرادة وسياسة النظام ورؤيته في إدارة الدولة والبلاد، يأخذ، هذا الحرص، طابعاً مسكوناً بمستقبل الدولة والنظام في مرحلة ما بعد المرشد الأعلى، وضرورة إعادة إنتاج مركز ثقل سياسي يعبّر عن توجهات القواعد الشعبية والشرائح الاجتماعية ويفرضها شريكاً في صناعة القرار ومستقبل إيران السياسي.