فاطمة الزهراء الحاجي فنانة تصالحت مع جسدها فجعلته محْملا للرسم
النشرة الدولية
العرب – حنان مبروك –
بينما يطوع الفنانون التشكيليون في مختلف مناطق العالم المواد المختلفة لتصوير لوحاتهم أو منحوتاتهم، تجعل الفنانة التشكيلية التونسية فاطمة الزهراء الحاجي من جسدها محْملا للمنجز الفني أو مشاركا كعنصر رئيسي في العمل التشكيلي يعبّر عن رؤيتها للثنائيات المتضادة والمتكاملة التي تقوم عليها الحياة.
يقول العالم توماس أديسون إنّ وظيفة الجسد الرئيسية هي حمل الدماغ، وهذا قد يكون رأيا صائبا من وجهة نظر العلماء، لكن ماذا لو كان هذا الدماغ دماغ فنان متشبّع بجماليات الفن التشكيلي ويرى في الوجود كل شيء جميلا، وحتى إن لم يكن كذلك فإن فيه جمالا مختبئا في أحد تفاصيله، هذا العقل ربما يحوّل الجسد إلى لوحة لا مثيل لها، منحوتة شديدة الدقة، تحمل كل مرة صورة عن مفهوم جديد ومشهد لا يتكرر.
وفي حالة الفنانة التشكيلية التونسية فاطمة الزهراء الحاجي صارت وظيفة الجسد الرئيسية رسم لوحاتها، ليس بتنفيذها كرسوم أو جداريات كبرى بل بأن يكون هذا الجسد – جسدها هو اللوحة عينها.
وفاطمة الزهراء الحاجي باحثة وفنانة تشكيلية وناشطة في الساحة الثقافية التونسية والعربية ولديها العديد من المشاركات الدولية، أبرزها كان في المغرب ومصر وإيطاليا إلى جاب العديد من المشاركات المحلية والوطنية في المعارض الجماعية. وهي متحصلة على درع الإبداع من قبل لجنة تحكيم المهرجان الدولي للفنون التشكيلية بالغردقة (مصر) سنة 2014.
إنها فنانة تمارس الفن التشكيلي على محامله التقليدية من ورق وقماش بتقنيات مختلفة من بينها الأكريليك والألوان الزيتية، لكنها تحاول عبر أغلب أعمالها إبراز مسألة الزمن والفضاء والتطرق إلى ثنائيات متعددة كالصدفة في الفعل التشكيلي والمتوقع واللامتوقع والفوضى والنظام، لذلك نراها اختارت جسدها كإحدى أفضل المساحات التي يمكنها التعبير بدقة عن هذه الموضوعات.
ومن يتأمل صورها وهي تعمل يلاحظ أن الفنانة لا تحمل فرشاة رسم بل تكتفي بمسك الألوان بيد والرسم باليد الأخرى إلى أن تندمج في الرسم فتتحول يداها من الإبداع على اللوحة أو المحمل المخصص للرسم إلى جسدها فتحوله إلى جزء لا يتجزأ من اللوحة، يحمل ألوانها وتفاصيلها المكملة لما ابتدأته الفنانة خارجه.
وتعكس أعمال فاطمة الزهراء إيمانها الراسخ بأن ما بين الفن التشكيلي والمرأة علاقة متفاعلة فيما بينها وهي متفاعلة أيضا مع محيطها والمتغيّرات الطارئة أو الطبيعية التي تعتريه، وهي بذلك واحدة من الممارسين المعاصرين للفن التشكيلي الذين يعتبرون أن الذات المبدعة هي الذات التي تنهل من العالم المحيط بها بالكثير من الحيرة والتساؤلات.
ولا تخجل الفنانة من ظهورها كلوحة أو عنصر مكمل للوحتها، بكل تفاصيل جسدها الأنثوية، بل هي متممة لجمالية أعمالها المستقاة من ألوان الحياة المتفائلة أحيانا والغاضبة أحيانا أخرى، وحتى إن كان جسدها هو مركز النظر فهو بالتأكيد فرصة لاستثارة عين المتلقي ومصالحته مع معالم جسمه وثناياه، وإقناعه بأن لكل امرئ ملامح تميزه ولكل جسد تفاصيل جميلة قد لا تكتشفها عين صاحبه.
لكن هذا الاحتفاء الفني بالجسد -رغم أن الفنانة لا تتجرد من ثيابها بل تجعلها هي الأخرى جزءا من اللوحة- قد يرى الكثير من المتلقين أن لا جمال فيه أو ربما يرفضونه لـ”حرمانية” الجسد الذي يطالبون المرأة خاصة بستره ومداراة مفاتنه.
وقد يكون الاحتفاء بالجسد في الفن التشكيلي أمرا عاديا لدى المجتمعات الغربية التي اعتادت أعينها النظر إلى منحوتات أجساد عارية ولوحات تشكيلية عن أجساد وأجسام وتفاصيل أنثوية وذكورية متنوعة، بدأت منذ العصور الغابرة وصولا إلى الفن المعاصر.
لكن بالتأكيد لن يكون الأمر كذلك بالنسبة إلى الشعوب العربية؛ فالاحتفال بالجسد الإنساني عامة في محاولة للكشف عن الجمال الكامن فيه، يعدّ عملا أو فعلا جريئا كونه يمسُّ أحد “المحرَّمات” والممنوعات التي خلقت عقدا نفسية كبيرة تقيم حواجز بين الإنسان وجسده، وأخرت افتتان الفنّ بالجسد الإنساني وجعلت كل محاولات التعبير عنه حبيسة المنظور الجنسي المثير للحواس والغرائز، وهو ما تتجاوزه الأعمال الفنية عادة.
لذلك تحاول فاطمة الزهراء الحاجي من حين إلى آخر التعريف بأسلوبها الفني وتجربتها في تطويع الجسد، وقد تمكنت منذ عام 2015 من تقديم “ماستر كلاس” باللغة الإنجليزية يلخص مسيرتها الفنية من خلال طرح قضية الجسد باعتباره محور عروض قامت بتقديمها بأشكال مختلفة، وتحصلت من خلاله على شهادة اليونسكو للفنون والميدالية الذهبية للإبداع سنة 2015، إلى جانب منحها دعوات لكل التظاهرات التي تقيمها جمعيات الفنون في مختلف أنحاء العالم.
وبالعودة عصورا إلى الوراء نجد أن ما قد تستنكره عين المتلقي في زماننا ويرفضه عقله كان سائدا ومقبولا في الماضي؛ فالرسم على الجسد والرقص والغناء وقرع الطبول كانت أمرا لا بد منه من أجل الدفاع عن النفس وبقاء الإنسان البدائي على قيد الحياة. ووجد أول طلاء على الكهوف قبل مئات الآلاف من السنين، حيث تعتبر هذه الكهوف الأمثلة الأولى على استخدام مواد الطلاء (ثاني أوكسيد الكربون والمنغنيز والعكر). وبذلك افترض العلماء أن أسلاف البشر استخدموا مواد الطلاء لطلي أجسادهم.
ومنذ قرون كان الممثلون والمهرجون حول العالم يرسمون وجوههم وأجسادهم أحيانًا، وهم مستمرون في ذلك إلى يومنا هذا. ولقد تطور الرسم على الوجه ليصبح ما يعرف اليوم بمستحضرات التجميل.
ثم صارت عملية الطلاء، مع حركة التطور الطبيعية للشعوب، من مظاهر الاحتفاء والفرح، وكثيرًا ما توضع الصبغات وترسم النقوش على الجسد خلال الاحتفالات.
المجتمع لا يزال يرفض ضمنيا ويستنكر كل محاولات جعل الجسد لوحة أو جزءا منها كما تفعل فاطمة الزهراء الحاجي
وأشهر من احتفى بالجسد الإنساني الرسام والنحات الإيطالي مايكل أنجلو (1475 – 1564) الذي كان يعتبر أن جسد الإنسان العاري هو الموضوع الأساسي للفن، مما دفعه إلى دراسة أوضاع الجسد وتحركاته ضمن البيئات المختلفة، حتى أن جميع فنونه المعمارية كانت تحتوي على شكل إنساني من خلال نافذة أو جدار أو باب.
وتمكن مايكل أنجلو من نحت الجسد مبرزا أدقَّ التفاصيل فيه حتى كاد يُنطقه، كما احتفى الرسام الإيطالي ليوناردو دافنشي (1452 – 1519) بهذا العنصر المادي حين رسم الجسد الإنساني وقام بتشريحه.
وفي المجتمعات العربية مازالت النسوة يستخدمن الأصباغ المصنوعة من الحناء التي تسمى أيضًا بـ”وشم الحناء” كنوع من التعبير عن الفرح. لكن أغلبهن يخفينها عن الأعين كي لا تثير الجنس الآخر.
ومع كل ذلك لا يزال المجتمع يرفض ضمنيا ويستنكر كل محاولات جعل الجسد لوحة أو جزءا منها -كما تفعل فاطمة الزهراء الحاجي- لكنه يغض الطرف عن الجسد المعذّب والمنتهك ولا ينتفض له انتفاضه ضدّ تعري سنتيمتر واحد من جسد فتاة. لذلك يمكن القول إن الطريق أمام هذه الفنانة التونسية لا يزال طويلا حتى تقنع الآخر بوجوب تقبل الجسد كلوحة تشكيلية تصالحه مع اللوحة الواقعية التي يحملها معه من المهد إلى اللحد، ولا يكتفي بتجاهلها وحده بل يؤسس لقطيعة جماعية، ونحتاج إلى الكثير من الفنانين من أمثال الحاجي علّ عملية التصالح تكون أسرع وأجمل.