الجواب في مكان آخر
بقلم: مصطفى أبو لبدة
النشرة الدولية –
تحتاجُ إلى أن تكون ”طيباً زيادة حبّتين“ حتى تصدّق ما تبرر به الإدارة الأمريكية تواطؤها مع إيران، وتقدم لها تنازلات صادمة بمنطق ظواهر الأمور.
يوم الجمعة الماضية، عشيّة الجولة التاسعة لمفاوضات فيينا الرامية لاستعادة اتفاقية النووي 2015، أعلنت الإدارة الأمريكية إعفاء إيران من رزمة عقوبات ثقيلة، ودون أن تقابلها إيران بأي مبادرة.
بررت واشنطن قرارها بأنه يهدف إلى تسهيل محادثات 4+1، كونه يسمح بإجراء المباحثات الفنية التي تُعدّ ضرورية للعودة إلى الاتفاقية المعروفة باسم ”خطة العمل الشاملة“.
لكن التبرير لم يكن مقنعاً، وبالذات للذين كانوا قد تساءلوا طوال العام الأول من إدارة بايدن عن السبب الخفي الذي يجعل واشنطن، وفي قضايا دولية كبرى متزامنة، تتنازل أمام طهران لكنها تتشدد مقابل موسكو.
يوم الاثنين الماضي، كان موضوع التنازلات لإيران محرجاً للإدارة الأمريكية التي لم تستطع أن تقدم للصحفيين تفسيراً مقنعاً لما حصل.
وفي المؤتمر الصحفي للناطق الرسمي باسم وزارة الخارجية، نيد برايس، سأله المراسل الدبلوماسي لوكالة ”أسوشييتد برس“، مات لي، عن المنطق في تقديم قائمة طويلة من التنازلات والإعفاءات لإيران، ثم القول إن إيران لن تستفيد شيئاً من كل ذلك؟ فأجاب نيد: ”الفائدة الصافية من ذلك هي منعهم من امتلاك النووي“.
وفي مشهد جعلت منه شبكة ”فوكس نيوز“ قصة إخبارية، عاود المراسل سؤال ناطق الخارجية قائلاً: ”تقدمون قائمة إعفاءات طويلة ثم تقولون إن إيران لا تحصل على شيء منها! فما كان من ناطق الخارجية إلا أن احتدّ ورد بالقول: ”مات، لستَ بحاجة إلى رفع صوتك“.
لكن المراسل الصحفي عاود السؤال قائلاً: ”وإذا كان فعلاً أن ما تعرضونه على إيران لا يتعدّى تسهيلات فنية لا تتعارض مع قانون مراجعة الاتفاقية النووية (INARO)، فلماذا عرضتموه إذن على الكونغرس؟“، فردّ ناطق الخارجية بأن ليس لديه إجابة عن السؤال، وأنه سيقدمها في وقت لاحق.
شاهدُ هذه التوطئة من حيثيات الهدية التي قدمتها واشنطن لطهران يوم الجمعة الماضية، هو تبيان كيف أن ما تفعله الولايات المتحدة لإعادة تأهيل النظام الإيراني لكي يواصل اختراق الشرق الأوسط بالميليشيات والوكلاء والمسيّرات، هو ترتيبات للدولة العميقة يصعب أحياناً على وزارة الخارجية الدفاع عنها بالعلن.
خلال السنوات الماضية، نُشر الكثير المُوثّق عن الدور الوظيفي للنظام الإيراني في خدمة استراتيجيات الدولة العميقة الأمريكية في الشرق الأوسط، رغم ما يطفو على الأسطح من بلاغة التراشق المتبادل بينهما في الاتهامات والأوصاف العدائية.
وتسربت أيضا وثائق بكميات ضافية، عن الرعايات التي كانت قد قدّمتها الإدارات الأمريكية المتعاقبة إلى إيران ثمن مشاركتها في حربي أفغانستان والخليج الثانية 2003، حيث حصلت على جوائز ترضية تنفّذت بموجبها في العراق، مع وكلاء مسلحين في عديد الدول العربية.
الجديد اليوم في المعلومات عن هذه العلاقة الوظيفية بين طهران وواشنطن، هو ما أوردته دراسة استقصائية عالية الاحتراف المهني، وهي تكشف عن منظمة سريّة اسمها ”الدائرة Le Circle“ تعمل منذ سبعين سنة على إدامة هيمنة اليمين المحافظ على النظام العالمي، ومنه بطبيعة الحال الشرق الاوسط.
أحد الأعضاء النافذين في هذه الجمعية الفائقة السرية، كان مستشار الأمن القومي الأمريكي زبغنيو بريزنسكي، المعروف بأنه صاحب الامتياز في تصنيع وتنفيذ نظرية ”الإسلام السياسي بنسخة المذهب الشيعي“، حيث طبقها في إيران بتدبير الاطاحة بالشاه والمجيء بنظام الملالي الذي ساهم في إنهاء الوجود السوفييتي بأفغانستان، وأطلق شعار تصدير الثورة إلى دول الجوار العربية لإبقاء المنطقة على جمر الاستنزاف.
كان لافتا في توثيق الاجتماعات السرية لجمعية ”الدائرة“ – وهي التي تنعقد مرتين في السنة إحداهما في واشنطن – أن اجتماع عام 1978 كان في طهران قبل أشهر من ثورة الخميني.
كذلك كان اجتماعها في واشنطن عام 2009 مخصصاً للشرق الأوسط الذي لم يلبث أن وجد نفسه بعد عدة أشهر ينزلق في حراكات ”الربيع العربي“ التي استهدفت تغيير وجه المنطقة وتسليمه لحراكات الإسلام السياسي التي يؤمن بها ويعمل لها تنظيم ”الدائرة“ المرتبط بالمخابرات المركزية الأمريكية.
بين أعضاء جمعية “ الدائرة“ التي حافظت على سريّة عالية طوال العقود الماضية، نخبٌ قيادية من 25 دولة، بينها أربع دول عربية، يمثلون مجتمع المخابرات ومستشارين للأمن القومي وأثرياء كبارا وقضاة وخبراء في التوجيه النفسي والإعلامي.
في التحقيق الاستقصائي الذي نشره موقع ”دي كلاسيفايد“، عرض الصحفيان مات كينارد ومارك كيرتس، وثائق رسمية جرى الإفراج عنها مؤخراً، تُظهر أن جمعية ”الدائرة“ التي تأسست مطالع خمسينيات القرن الماضي لتعزيز صمود أوروبا الغربية في وجه المد السوفييتي، تحوّلت لاحقاً إلى هيمنة المخابرات المركزية الأمريكية.
كما أن خلية القرار ضمن الجمعية التي تسمى ”دائرة بيناي“ (نسبة إلى رئيس الوزراء الفرنسي الأسبق أنطوان بيناي، الذي تشارك في تأسيس الجمعية الأم مع المستشار الألماني كونراد أديناور)، هي الجهة التي أوصلت أربعة أعضاء فيها إلى البيت الأبيض، وهم رونالد ريغان، وبيل كلينتون، وجورج بوش الأب، والابن.
ولم تكن مجرد مصادفة أن ثلاثة من هؤلاء ينحدرون من أصول الجزيرة البريطانية، في إشارة إلى أن جمعية ”الدائرة“ تستلهم في بعض منطلقاتها نظرية سيسيل جون رودس، البريطاني الذي كان قد أثرى وتسيّد في جنوب أفريقيا بنهايات القرن التاسع عشر، وأنشأ جمعية سرية حملت لواء الدعوة لنظام عالمي عموده الفقري الامبراطورية البريطانية.
حتى إذا نشأت جمعية ”الدائرة “ كانت دعاوى سيسيل رودس جزءاً من نهجها الذي تتشارك فيه الولايات المتحدة مع بريطانيا، وبالذات في العهود التي تشهد مواجهات مع روسيا أو التي يخوض فيها الطرفان حروبهما معا في الشرق الأوسط، أو التي يرعون فيها الإسلام السياسي، السنّي منه المتمثل بالإخوان المسلمين، أو الشيعي الذي تتولاه إيران.
وزارة الخارجية الأمريكية لم تستطع يوم الاثنين الماضي تقديم تفسير مقنع للصحفيين، يبرر رفع واشنطن للعقوبات عن طهران دون مقابل.
بعض التفسير ربما جاء في المعلومات التي كشفت عن وجود تنظيم سري أممي تموله المخابرات المركزية ويرى في إيران حليفا لم تنته وظيفته حتى الآن.