عيد الحب: كيف تنظر الأديان للعشق؟
يبدو الحبّ في الرابع عشر من فبراير من كلّ عام، أشبه بديانة قائمة بذاتها، نبيُّها الدبدوب الأحمر، وقرابينها الورود، والشموع، والبالونات. كرّس النمط الاستهلاكي لعيد العشاق نموذجاً موحّداً للاحتفاء بالحبّ الرومانسي، وهو “اختراع” بشريّ جديد نسبياً، مقارنةً بالمدارس الروحانية التي قاربت الحبّ بما يتناسب مع رؤيتها للخلاص.
“بحبّه يا بابا”، جملة، لكثرة ما تردّدت في أفلام الأبيض والأسود المصرية، باتت أيقونة درامية وهزليّة في آن. تبكي البطلة على فراق حبيبها الذي تمنعها الأعراف من الارتباط به. غالباً، يكون الحبيب من طبقة مختلفة، أو لم ينه دراسته، أو لا يعجب أهلها. تنتهي القصّة بالزواج رغم العقبات، ويفرح الجمهور، ويعيش طائرا الحبّ بثبات ونبات.
يقول الفيلسوف والكاتب البريطاني آلان دو بوتون إن مفهوم الحبّ الرومانسي الذي نرى تكثيفاً له في الأفلام، نشأ في نهاية القرن الثامن عشر، وشكّل ثورة ونكبة في آن. مع الحبّ الرومانسي، انتفى الزواج بدافع المال أو الأرض أو المنصب، وصار الدافع الوحيد المقبول للارتباط هو المشاعر أو “الحبّ الحقيقي”. برأيه، فإنّ تعريف التيار الرومانسي للحبّ قضى على حظوظ الناس “العاديين” بخوض علاقات متوازنة وغير مهدّدة بالانهيار.
كيف نعرّف الحبّ الرومانسي؟ إنّه بحسب آلان دو بوتون النموذج الأكثر شيوعاً للحبّ اليوم. من أبرز عناصره أننا نوجّه انجذابنا بالأساس إلى من يتمتع بجمال الشكل والمضمون في آن، كمعيار أساسيّ لقبول الحبّ أو رفضه. في هذا الإطار، نتوقّع من الآخر ومن أنفسنا، أن نحفظ شرارة الانبهار الأولى، رغم مرور الزمن والانجاب وهموم المال والمهنة. فإن اختلفنا مثلاً على وضعيّة المناشف في الحمام، أو لم ننجح بتغيير عادات الآخر وأسلوب حياته، يعني أننا فشلنا في الامتحان. في كتيّب الحبّ الرومانسي هذا، الوحدة مسألة كارثيّة، ما يجعلنا ننتظر من الآخر ألا يكون حبيباً فقط، بل طبيباً نفسياً، وطباخاً، وسائقاً، ومستشاراً مالياً، ومرشداً روحياً كذلك. برأي الكاتب البريطاني، فإنّ هذه التوقعات غير منطقية، وغير عمليّة، وتسبّب تعاسة كثر.
طائر مكسور الجناح
نشأ التيار الرومانسي كردّة فعل على التطوّر العلمي والصناعي المتسارع، وكدعوة للعودة إلى طفولة البشرية، إلى الطبيعة، والفطرة. البطل الرومانسي كما صوّرته الروايات الأوروبية في تلك الحقبة، حزين، بائس، ومنتحر على الأرجح في النهاية. هو ضحية الامتثال لقوانين العالم الجائرة، الشهيد البريء في مجتمع نسي لغة الحبّ والمشاعر. يشبه أبطال المسلسلات التركية أو الكورية المدبلجة.
في توق رومانسيي القرن الثامن عشر إلى الطفولة والفطرة استلهامٌ من الأساطير التي أعطت الحبّ والرغبة شكل طفل مجنّح يحمل قوساً وسهماً، هو ابن الهة الحبّ (فينوس/ أفروديت) وإله الحرب (مارس/ آريس). سمّاه الاغريق ايروس، والرومان كيوبيد، وكان يكفي أن يصيب بسهمه أيّ أحد، حتّى تدبّ في جسد المصاب الرغبة الجامحة.
منح خيال الحضارات القديمة آلهتها القدرة على الحبّ والزواج والانجاب. كيوبيد الذي بات رمزاً للحب الرومانسيّ خلال القرن الماضي، كان في القدم وجهاً هامشياً في معابد آلهات الحبّ التي قدُّست من مصر القديمة إلى بلاد ما بين النهرين، وصولاً إلى الحضارات الاغريقية والرومانية.
البودكاست نهاية
فينوس، أفروديت، عشتار، إنانا، وإيزيس، والعزى، كنّ وجوهاً متعددة لإلهة واحدة هي إلهة الحب، والجمال، والخصوبة، والرغبة. في بعض الحالات، كانت الهة الحبّ والخصوبة إلهة الحرب والعدالة والسلطة أيضاً، كما في حالة إنانا، أو حامية النساء والأطفال كما في حالة ايزيس. فالحبّ في تلك الديانات كان جزءاً من سلطة الطبيعة، وقوّة للخير والدمار في الوقت ذاته. اعتبرت الرغبة قوّة ايجابيّة لاستكمال دورة حياة الانسان المستمدّة من الفصول ومواعيد الحصاد.
بعد مئات السنوات من المدّ المسيحي في العالم، وأثره في الإنتاج الثقافي في أوروبا، تحوّل كيوبيد إلى طائر مكسور الجناح، لتحلّ مكان ايروس الشبقيّ، المحبّة أو agape بمعناها القدسي. بات الحبّ قيمة تربط الانسان بالله وتربط الناس ببعضهم البعض. كُسر جناح الحبّ الشهواني لصالح معانٍ روحانية تنفي الجسد بالكامل وتقصيه، وتدعو الناس إلى المحبة والرحمة كأسلوب عفيف للعيش ولنيل الثواب في الآخرة.
في اللاهوت المسيحي، الله “محبّة”، لأنّه تجسّد على شكل انسان لتخليص البشرية من خلال الصلب والآلام. بحسب انجيل يوحنا، فإنّ وصيّة المسيح الوحيدة لتلاميذه كانت “أحبوا بعضكم كما أنا أحببتكم”. ترى الكنيسة المحبّة واحدةً من قيمها الأساسية الثلاث، إلى جانب الايمان، والرجاء.
لا مكان على الإطلاق للشهوانية في الفكر المسيحي، بل تشديد على التقوى، والعذرية، ونكران الملذات. فالجنس هو الخطيئة الأصلية التي طردت آدم من الجنّة، والهدف من الزواج هو الانجاب فقط، ولا حبّ ممكن إلا بالمسيح المتألّم المخلّص.
طريق اليقظة والكاماسوترا
تلتقي البوذية مع المسيحية في فهمها للحبّ كطريق للخلاص. في تعاليم بوذا، قدرُ الانسان الذي لا فكاك منه هو العذاب. ولكي يتجاوز هذه الحتمية ويتصالح معها، عليه ممارسة عدد من الفضائل الروحانية، تمرّ بالترفّع عن الغيرة والشهرة والرغبات.
الحبّ أو كارونا في البوذية (تعني الكلمة أيضاً العطف والرحمة في السنسكريتية)، من الفضائل الأساسية للخلاص الفردي والجماعي. الحبّ بالنسبة لبوذا يتجاوز حدود الوجود العادي، ليصير أحد سبل الحكمة. إنّه طريق لليقظة الكاملة من خلال النظر بعين الرحمة والعطف إلى الكون والإنسان والخلائق كافة. إنّه العطف من دون مقابل، من دون انتظار تقدير أو شكر أو ثمن. هكذا، فإنّ الحبّ في البوذية تمرين مستمرّ على تجاوز الخوف، وتقبّل ما ليس لنا عادة على تقبّله.
في روحانيات الشرق القديم، تتلاقى البوذية مع المسيحية في نبذ شهوات الجسد، كونها تشوّش ذهن الباحث عن الصفاء الكامل، بعكس الهندوسية التي ترى في الجنس والحبّ نوعاً من العبادة.
فمن أشهر الكتب الهندوسية المقدّسة كتاب الكاماسوترا الذي يجعل من الرغبة أساساً لولادة الكون الذي ينشأ من اتحاد الاله كريشنا بالإلهة رادها. في اللاهوت الهندوسي مكان أساسي للجنس، فمن خلال التزاوج بين الآلهة تنشأ الطاقة اللازمة لتجديد الخلق والحفاظ على دورة حياة الكون. الجنس بين البشر مشاركة في فعل الخلق المقدّس هذا، وطريقة لارتقاء الانسان إلى مراتب عليا.
بعكس المسيحية والبوذية، لا تضع التعاليم الإسلامية شهوات الجسد على الهامش، فلا تحرّم على أتباعها متاع الدنيا، لكنّها تضع قواعد شرعيّة للعلاقة بين الجنسين، قوامها تأسيس العائلة. الحبّ والجنس محبذان وفق الشرع فقط، وللزواج والانجاب فقه خاص.
يأخذ الحديث عن الحبّ في الإسلام ديناً ومجتمعاً طابعاً خاصاً، مع ارتباطه الصارم بمفاهيم الحلال والحرام الناشئة عن أعراف اجتماعية، وتأويلات مختلفة للنصّ القرآني، بحسب تعدّد المدارس والمذاهب.
من أكثر المتحمسين لرؤية الإسلام كدين للحبّ، المفكّر والباحث الأنثروبولوجي الجزائري الراحل مالك شبل الذي كتب مؤلفات عدّة في هذا المجال. وقد خلُص شبل في كتابه “مئة اسم للحبّ” إلى أنّ الإسلام منح الحبّ لحماً ودماً، وأعطاه بعداً إنسانياً. أمضى شبل حياته في دراسة نظرة النصّ القرآني والأحاديث النبوية للحب، والمتعة، والجنس، ويقول في إحدى مقابلاته إنّ الإسلام يعطي حريّة واسعة للحياة الجنسية والعاطفية، شرط أن تكون بين زوجين، أي مع تحديد الإطار العام لتلك العلاقة.
كرّس شبل الكثير من دراساته لإثبات أنّه رغم ظاهر التحريم الذي يطغى على المجتمعات الإسلامية، إلا أنّ الدين الإسلامي في جوهره متسامح مع مفهوم الرغبة، ولا يعدّها شأناً دونياً أو مرفوضاً.
قد يكون أجمل ما كتب في الحبّ، ما أنجزه تيار التصوّف الذي قاده مفكرون وفلاسفة وشعراء مسلمون، من الحلاج، إلى جلال الدين الرومي، ورابعة العدويّة، وابن عربي، وغيرهم. على تنوّع الطرق الصوفية، يبقى الحبّ عاملاً جوهرياً فيها.
بالنسبة للرومي فإنّ الحبّ “هو أسطرلاب الأسرار الإلهية”، و”الحبّ هو ميراث أبينا آدم، أما الدهاء فهو بضاعة الشيطان. الداهية الحكيم يعتمد على نفيه وعقله أما الحب فتفويض وتسليم. إن العقل سباحة قد يصل بها الانسان الى الشاطئ وقد يغرق، لكن الحب سفينة نوح التي لا خوف على ركابها ولا هم يحزنون”.
سناء الخوري/ بي بي سي