الحرب ستُغيّر روسيا!
بقلم: كارنيغي موسكو
النشرة الدولية –
بعد شهرين على مطالبة الرئيس الروسي فلاديمير بوتين وزارة الخارجية بانتزاع “ضمانات أمنية جدّية وطويلة الأمد” من الغرب، تبيّن أن هذه المساعي لن تحقق نجاحاً كبيراً. كانت روسيا قد تعهدت بإطلاق رد “عسكري تقني” إذا فشلت المفاوضات، وها هي تحشد قواتها العسكرية اليوم على الحدود الأوكرانية.
إذا اندلع صراع مسلّح فعلاً، ستؤثر تداعياته في السياسة الروسية المحلية بقدر العلاقات الخارجية، وفي هذه الحالة، قد تتوسع حملات القمع وتتفوق القوى المحافِظة على الأطراف الأخرى.
يظن البعض أن الحرب المحتملة قد تؤدي إلى اضطرابات داخلية في روسيا، مما يعني أن يتدهور الوضع الاجتماعي والاقتصادي، وتفقد السلطات سيطرتها بعد فرض عقوبات غربية جديدة وصارمة وزيادة الإنفاق العسكري.
قد تبدو هذه التوقعات منطقية، لكن تزداد الأدلة التي تشير إلى حصول تطورات مختلفة، وبدل فقدان السيطرة على الوضع، قد تتمكن السلطات من إحكام قبضتها على البلد، وعلى عكس ما حصل بعد ضم شبه جزيرة القرم في عام 2014، لن يترافق هذا الوضع مع بهجة شعبية عارمة بل ستتفاقم مظاهر القمع والإكراه.
قد يؤدي التصعيد العسكري إلى تأجيج حالة الطوارئ الوطنية حيث يسهل الإغفال عن القوانين، مما يعني التمسك بشعار “الغاية تبرر الوسيلة” واستحالة التوصل إلى تسوية مع الخصوم، وفي هذه الظروف، قد يُركّز الرئيس على أجندته الجيوسياسية ويتوسع هامش المناورة الذي تملكه مجموعة “سيلوفيكي” (دائرة بوتين الضيقة التي تؤثر على قراراته) داخل روسيا.
على صعيد آخر، قد تؤدي الحرب إلى زيادة عزلة البلد، وفقدان السيطرة على وسائل الإعلام والإنترنت، والضغط على شركات تكنولوجيا المعلومات الأجنبية، وتضييق الخناق على الأحزاب السياسية، وسيكون القمع المتزايد حتمياً في هذه الظروف، لكنه لن يستهدف المعارضة الحقيقية التي انهارت أصلاً بل الشخصيات الثقافية، وأصحاب المدونات، والناشطين المدنيين، والصحافيين، والخبراء، وسواهم.
لكن يشعر القادة الروس بأن بلدهم يملك الأموال الكافية لتجاوز هذه المرحلة بأفضل الطرق، على عكس موقف رئيس الوزراء السابق ديمتري مدفيديف حين قال في عام 2016 “نحن لا نملك المال، لكن يجب أن نصمد في مطلق الأحوال”، تعلن وزارة المال اليوم أن البلد يملك أموالاً طائلة. بلغت احتياطيات العملات الأجنبية في روسيا مستويات قياسية في عام 2021، لكن لا تشتق هذه التقديرات من بيانات موضوعية بل آراء ذاتية: تتسم خطابات بوتين حول الوضع الاقتصادي في روسيا بالتفاؤل المفرط، مما يعطي انطباعاً بأن وضع البلد جيّد.
أثبت الكرملين استعداده للجوء إلى إنفاق اجتماعي انتهازي لتهدئة الرأي العام أو تسهيل مرحلة التغيير السياسي، كما حصل قبيل التصويت الوطني حول تغيير الدستور في عام 2020 والانتخابات البرلمانية في عام 2021. أصبحت السلطات مستعدة للقيام باستثمارات مالية للحفاظ على حد أدنى من الولاء للنظام.
منذ عام 2020 على الأقل، ركّز الكرملين على قمع المعارضة غير النظامية التي لم يمنحها يوماً أي شكل من التمثيل، حتى أنه همّش المعارضة الراسخة داخل النظام، واليوم، يزداد توتر العلاقات داخل الحزب الشيوعي وتتصاعد الضغوط على الجناح المتطرف في الحزب.
لكنّ التصعيد الدولي سيدفع الكرملين إلى التركيز على تحييد الشيوعيين بالكامل من الساحة السياسية، ومن المتوقع أن تزيد السيطرة على الانتخابات، وتتحول الاستحقاقات الانتخابية إلى حملات استفتائية على جميع المستويات، مما يعني ضرورة أن يوافق الكرملين مسبقاً على جميع المرشحين، وهذا الوضع قد يدفع المجتمع الروسي إلى حالة من اليأس السياسي التام.
لا شك أن النزعة إلى توسيع سيطرة الكرملين ستصل إلى مجالات أخرى من الحياة أيضاً، ومن المتوقع أن تتحول الخطابات الراهنة حول “القيم التقليدية” إلى حملة أخلاقية شاملة تؤثر على جميع القطاعات، بدءاً من العمل والتعليم وصولاً إلى التفاعل مع الأجانب ومواقع التواصل الاجتماعي.
في غضون ذلك، قد تبدأ دوامة جديدة من التطورات الدولية وترسّخ نزعات قمعية بدأت تتصاعد أصلاً في الحياة العامة الروسية خلال السنوات الأخيرة. كذلك، قد تُسحَق مظاهر الاستياء بقوة مضاعفة، حتى لو ظهرت في أوساط المعارضة داخل النظام.
أخيراً، قد يواجه المديرون السياسيون في الكرملين تعديلات متجددة، مما يعني على الأرجح توسيع دور مجموعة “سيلوفيكي” في السياسة المحلية، وعلى مستوى المجتمع، قد ينشأ نوع من التعبئة الوطنية القسرية، وبدل لمّ شمل البلد بطريقة تلقائية، كما حصل في عام 2014، ستكون الوحدة هذه المرة إلزامية وتُعبّر عن ولاء كاذب، وسرعان ما يتحول خليط النظام المزيف وأجواء التشاؤم واليأس إلى شرخٍ هائل يترافق مع أعلى درجات المخاطر.